نحو القدس
بقلم: د. عبد الله معروف*
تركيا
لم تكن حياتي في صغري تختلف عن غيري، فقد ولدت في مدينة عمّان بالأردن، وتنقلت في صغري مع عائلتي بين السعودية والأردن وفلسطين في زيارات هنا وهناك، بينما كانت إقامتنا في الطفولة في مدينة الطائف. وأذكر أني كنت قد قُبلت في المدرسة هناك صغيراً، إذ لم أكن قد أتممت الخمس سنوات عندما بدأت دراسة الصف الأول، والسبب في ذلك أني دخلت المدرسة «مستمعاً»، ولكني في نهاية العام كنت الأول في الصف، فتم ترفيعي للصف الثاني، وبقيت متقدماً سنةً ونيفاً على أقراني من نفس السن منذ ذلك الوقت، ولم أكن أعلم عن قضية فلسطين أكثر مما يَعْلمه أي شخص يعلّمه أبوه وأمه معنى كلمة (لاجئ) و(نازح) و(فاقد للهوية) و(نكبة) و(نكسة).. إلخ.
ومع انتقال عائلتنا إلى الأردن، التي عشت فيها فترة طويلة من عمري (حوالي 14 عاماً)، أتممت سنوات دراستي في عدة مدارس، ولا أذكر أني أقمت في مدرسة واحدة أكثر من أربع سنوات على الأكثر، بل إني درست في بعضها شهرين فقط ثم انتقلت لغيرها! وكنت في تلك الفترة قد تعلمت القرآن الكريم في جمعية المركز الإسلامي الخيرية، وأذكر أني سافرت دون عائلتي لأول مرة إلى العمرة (مع جمعية المركز) عام 1993 وأنا لا أزال فتى غِراً صغيراً. وبعد أن أنهيت الثانوية العامة (في الفرع العلمي) بتقدير جيد جداً عموماً قُبلت في الجامعة الأردنية في كلية الشريعة عام 1996م، علماً بأن هذه الكلية لم تكن ضمن اهتماماتي الأولى، بل كنت أرغب في دراسة اللغات، وأقصى اهتمامي في تلك المرحلة كان التعرف على العالم وفهمه ودراسة الترجمة. إلا أني فوجئت بقبولي في كلية الشريعة التي كانت الخيار رقم 13 في قائمة طلب القبول الموحد (المعمول به في الأردن) الذي ملأته لطلب القبول في إحدى الجامعات، ولم أكن أفهم ماذا يعني بالضبط دراسة الشريعة، وإلى أين يمكن أن يسير بي المقام من هناك.. إلا أني أتممت إجراءاتي ودخلت الجامعة في هذه الكلية العزيزة على قلبي لا لشيء إلا لأني كنت أحفظ حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) رواه الشيخان.
وأذكر أني حين سجلت في الجامعة كنت أصغر طلاب الكلية سناً، إذ في يوم التسجيل كنت في السادسة عشرة من عمري، حتى كان البعض يلقبونني لقباً طريفاً هو (سنفور الشريعة)..! وفي الجامعة الأردنية تفتحت مداركي على الدنيا وفهمت كثيراً مما خفي علي فيما سبق من عمري، فدرست هناك القرآن الكريم على أيدي كبار علماء ديار الشام كشيخنا أ. د. فضل حسن عباس رحمه الله، وأستاذنا أ. د. أحمد نوفل، ودرست علوم الحديث على أيدي علماء كبار كأستاذنا أ. د. محمد عيد الصاحب، والعقائد والفقه وأصوله وغيرها على أيدي علماء أجلاء كانت تزخر بهم هذه الكلية الجليلة، ومنهم شيخنا أ. د. عمر الأشقر رحمه الله، وأستاذنا أ. د. راجح الكردي، وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين جمعوا بين العلم والعمل.. وقرأت في الجامعة كتباً كثيرةً غيرت مجرى حياتي، ولكن سلسلة (رسائل العين) للأستاذ محمد أحمد الراشد كانت بالنسبة لي مفصلاً مهماً، وخاصة رسالتَيْ (الإيجابية في حياة الداعية) و(تقرير ميداني)، حيث يذكر الراشد كثيراً مما أصبحت إلى اليوم ألتزم به في حياتي. وكان مما تعلمته من رسائله ضرورة التخصص، حيث يقول الراشد: إن الداعية ينبغي له أن يتخصص في قضية ما ويصبح مختصاً دعوياً في أحد أبواب المعرفة، فكنت في تلك المرحلة أبحث عن قضية إنْ صحّ التعبير!
وكان التحول الأكبر في حياتي في تلك المرحلة هو الاتجاه نحو القدس تحديداً.. وللحق: فإن أول ما لفت نظري لهذه القضية كتاب أحببته جداً، وهو كتاب (كنوز القدس) للمهندس رائف نجم، فقد أسرتني القدس عندما اطّلعتُ على كنوزها وعظمتها، وقررت أن تكون هي اختصاصي، وبارك الله تعالى هذا الأمر حين زرت فلسطين خلال دراستي في الجامعة عام 1998، وزرت القدس على علمٍ نِسبيٍ هذه
المرة.. فكان هذا تحولاً كاملاً في حياتي، حيث ارتبطتُ بالقدس وسرت معها وسارت معي أولاً بأول، حتى صارت القدس مدار حديثي في كل حين. وأنهيت دراستي الجامعية بحمد الله في بداية عام 2000م، ووجدت عملاً بعد تخرجي بثلاثة أسابيع فقط بحمد الله، ولكن هاجس العمل لأجل القدس كان هو المحرك لكل عملي وتحركاتي، فكان أن اتخذت قراراً لم أُطْلع عليه أحداً إلا شخصين فقط، وهو الهجرة نهائياً إلى القدس تحديداً، وبدأت أقوم بإجراءاتي لذلك، وبعد عدة أشهر يسر الله لي فسافرت إلى فلسطين فعلاً.. وذهبت إلى القدس عند صديق لي وأخبرته أن نيتي هي الهجرة، فعرّفني على رجل صالح من أهل المسجد الأقصى المبارك، ففتح الله لي على يديه ما لم أكن أحلم به أبداً.. فقد وجدت على يديه عملاً في لجنة التراث الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك، وكان عملي في البداية: تعليم الصبية القرآن الكريم والقيام بالخدمات في باب الرحمة - من أبواب المسجد الأقصى المبارك - (مقر اللجنة)، من تنظيف وكنس وخدمة. فكنت إذا أنهيت عملي جلست في زاوية أعددتها لنفسي داخل الباب أدرس فيها الكتب القديمة المختصة بالقدس كالأنس الجليل وغيره، ثم أخرج إلى شوارع القدس فأطبق فيها ما تعلمته، وأطابق المباني التي أراها مع ما أقرأه عنها في الكتب. حتى كان يوم 28/9/2000م حين اقتحم الإرهابي أرئيل شارون المسجد الأقصى المبارك وبدأت انتفاضة الأقصى المبارك، وكنت أرسل أخبار الأقصى للنشر في صحيفة السبيل الأردنية (التي كنت أعمل فيها متطوعاً منذ أيام دراستي في الجامعة الأردنية وأنشر بأسماء مستعارة)، فلمــا علمت لجنة التراث الإسلامي في المسجــد الأقصى بذلك قررتْ تغيير وظيفتي وتعييني مسؤولاً للإعلام والعلاقات العامة في المسجد الأقصى المبارك، فكنت - بالتالي - أرسل الأخبار إلى وكالات الأنباء والمؤسسات المهتمة في أوروبا والعالم العربي وأمريكا، وتطور عملي بعد ذلك ليُضَمَّ له الإرشاد الأثري في المسجد الأقصى المبارك مع بعض الزملاء الكرام. وفي تلك الفترة مَنّ الله عز وجل علي بالزواج عام 2001، وولد ابني الأول (محمد) في القدس عام 2002.
لكن عملي في المسجد الأقصى المبارك في مجال الإعلام والمعلومات والإرشاد الأثري أثار حفيظة قوات الاحتلال، التي اتصلت بزوجتي هاتفياً في نهايات شهر تموز 2002، وطلبوا مقابلتي في مركز شرطة (المسكوبية)، فتوقعت السجن لسوء سمعة ذلك المكان، وذهبت إلى المسجد الأقصى المبارك وصليت فيه، وكانت آخر ركعةٍ صليتها هناك حتى اليوم ركعة الوتر من صلاة العشاء، صليتها في مغارة الأرواح في قبة الصخرة المشرفة. وفي اليوم التالي، فوجئت بتحويلي من مركز المسكوبية للمحكمة، وحُكم علي بالإبعاد خارج فلسطين عشر سنوات حتى قبل أن أعرف ما هي التهمة (التي لم أعرفها بالمناسبة حتى اليوم..)! وتم اقتيادي إلى منزلي ثم إلى الحدود الأردنية.
وبعد ذلك اليوم، انتقلت من الأردن إلى دولة الإمارات التي توفرت لي فيها فرصة عمل بحمد الله رب العالمين، والْتحقتْ عائلتي بي هناك بعد جهد، واستقر بنا المقام في أبو ظبي لمدة عامين. ومن هناك قدمت أول دورةٍ في علوم المسجد الأقصى المبارك، وتحديداً عبر برنامج (بالتوك) في غرفة (سرايا الدعوة)، وكان ذلك بداية عام 2003. وفي عام 2004، علمتُ عن وجود منح دراسية تُفتح للتنافس عالمياً لتخصصٍ كنت أتمنى وجوده وهو (دراسات بيت المقدس) في جامعة أبردين في بريطانيا، فتقدمت للمنحة ونافست عليها، ونجحت في الحصول على منحة لدراسة الماجستير في هذا التخصص بحمد الله، فعادت عائلتي إلى القدس وذهبت إلى بريطانيا، وتمكنت بحمد الله وفضله من الحصول على درجة الماجستير بتقدير امتياز، وكنت الأول على دفعتي، فأُعطيتُ منحةً لدراسة الدكتوراه في هذا التخصص، وهو ما كان، وأنعم الله علي بأن الْتحقتْ بي عائلتي بعد ذلك في بريطانيا.
ومن هناك بدأت رحلة العمل على الأرض لأجل هذه القضية، ففي عام 2007 تعرفت على عدد من المؤسسات العاملة لأجل القدس مثل مؤسسة القدس الدولية ورابطة شباب لأجل القدس، وبدأت التحرك هنا وهناك لأجل بناء هذا الجيل الذي نشهد اليوم ظهوره بحمد الله رب العالمين، وعملت بالفعل مع مؤسسة القدس عامين بين 2009 و2011، ثم رأيت أن العمل الأكاديمي الجامعي أشد تأثيراً وأبعد أثراً
فعملت – ولا زلت – في الجامعات. ومع كثرة التنقلات بعد رحلة الدكتوراه من بريطانيا إلى سوريا إلى ماليزيا إلى الأردن إلى المدينة المنورة وأخيراً إلى إسطنبول.. فإن المهمة تبدو في كل يوم أكبر.. والطريق ما زال طويلاً.. ولكن الثمرة في كل يوم تنضج أكثر وأكثر فتتضح الطريق ويتبلْوَر الهدف، وأشعر أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من النصر المبين بإذن الله ومِن قطْف هذه الثمرة التي ضحت الأمة لأجلها بالكثير.
إن خلاصة هذه التجربة (مع أنها لا زالت في بدايتها) التي أقدمها بين أيديكم هنا: أنك إذا قررت أن تنجز شيئاً لأجل هذه الأمة فلا توجد قوة في الأرض يمكنها أن توقفك.. إلا أنك في هذه الحالة ينبغي أن تأخذ على عاتقك مسألة خطيرة؛ فأي قرار تتخذه يحتاج منك إلى تضحية تتناسب وحجم هذا القرار.. والتضحية صعبة على النفس التي تركن دائماً إلى السكون والهدوء.. لكن الثقة بالله عز وجل إن كانت تامة فإن النتيجة تفوق ما تتوقعه.. فقدموا لأقصاكم دون حساب.. وكونوا (أقصى) يمشي على الأرض يكن لكم (الأقصى) سنداً وزاداً ورفعةً عند ربكم وفي الدنيا كذلك بإذن الله، فمَنْ صَدَقَ المسجد الأقصى المبارك عزماً صَدَقَهُ المسجدُ الأقصى بركةً وعطاءً.. ومن خذله ذاب كما يذوب الملح.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث ومتخصص حائز على دكتوراه في «دراسات بيت المقدس».
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن