في مراحل نمو الإنسان
(وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون).
لا بدَّ للمربِّي من العلم بمراحل نموِّ الإنسان، وطبيعة كلِّ مرحلة وخصائصها، ومتطلَّباتها واحتياجاتها، ليحسن التعامل مع الإنسان في جميع أحواله، بدءاً من مرحلة الطفولة؛ التي هي أدقُّ المراحل، وأشدُّها أهمِّيَّة وحساسية.
"ففي نَفس كلِّ رَجُلٍ طِفل، وفي نَفس كلِّ طِفلٍ رَجُل". وإذا كان القدْر اللغويُّ المشترك بينهما يمثِّل الثلث، فإنَّ القدر النفسيَّ المشترك بينهما أكبر من الثلث بكثير.. إذ إنَّ القدْر النفسيَّ بينهما يمتدُّ من الطفولة؛ حيث يتكوَّن الإنسان ويُبنى، إلى الرشد والرجُولة؛ حيث يكتمل وينضج، ثمَّ إلى الشيخوخة والضعف؛ حيث يصبح الإنسان على مشارف الوداع للحياة.. فهل يمكن أو يُتصوَّر أن تنفصل بعد تلك الطفولة عن المراحل الأخرى من حياة الإنسان؟
ففي المرحلة الأولى لا يميِّز الطفل ذاته عن العالم الخارجيِّ الذي يحيط به، ثمَّ في المرحلة الثانية يتحسَّس فيها وجود العالم الخارجيِّ مِن حوله، متمثِّلاً بأمِّه ثمَّ أبيه، ولكنَّه يشعر وكأنَّما العالم خُلق من أجله. واكتشاف هذه الكيانات الخارجيَّة هي الأساس الأوَّل لوعي الطفل وإدراكه..
وقد كشفت الدراسات المعاصرة أنَّ ما يقوم به الأطفال في السنوات الثلاث الأولى تكشف خصائصهم الوراثيَّة والعديدَ من خبايا المستقبل، كما تكشف الأطفال الذين يتمتَّعون بصفات متميِّزة عن غيرهم..
كما ذهب بعض العلماء إلى أنَّ العوامل الوراثيَّة ليست لها الأهمِّيَّة الكبرى في تشكيل تصرُّفات الأطفال، وإنَّما ترجع أكثر التصرُّفات بنسبة 85% إلى سلوك الآباء والأمَّهات مع أطفالهم.
فالإنسان محكوم في بناء شخصيَّته بعدَّة عوامل لا يَد له فيها؛ فعلاقته الجسديَّة بأمِّه وهو جنين تؤثِّر في مجرى حياته، وفي تكوينه النفسيِّ والجسديِّ، فعن طريق الحبلِ السرِّيِّ تنتقل إلى الجنين موروثات مختلفة، كما تنتقل عادات الأمِّ في المأكل والمشرب، والتفكير والسلوك، والرغبات والانفعالات.. وكذلك فإنَّ لحظة الميلاد؛ وما يرافقها من عسرٍ أو يسرٍ، أو آلام ومشكلات وأعراض، كالعمليَّة القيصريَّة أو السحبِ.. وكذلك الرضاع الطبيعيُّ أو الصناعيُّ، ومدَّة الرضاع، وكيفيَّة الفطام، ومرحلة التسنين، وما يتعرَّض له الطفل من حوادث وأمراض في طفولتِه.. كلُّ ذلك ينعكس على نفسيَّة الطفل، ويترك أثرَه في صحَّته الجسميَّة والنفسيَّة..
كما أنَّ معظم الأطفال الذين يتمتَّعون بصفات قياديَّة هُم من أُسرٍ متفاهمة.. فإنَّ السلوك غير التربويِّ لبعض الآباء يؤدِّي إلى عُقدٍ نفسيَّة للأطفال، وهي من أنماط الاضطراب والاختلال في الشخصيَّة، وقد ينجم عن تكرار بعض العادات على نحو لا شعوريٍّ، أو نتيجة بعض الصدمات والأزمات، وأكثر العقد النفسيَّة تنشأ في السنوات الخمس الأولى بسبب الأساليب التربويَّة الخاطئة.
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ البيئة الطبيعيَّة لها أثر كبير في سلوك الأفراد وبناء شخصيَّاتهم، وقد قرَّر ذلك الإمام ابن خلدون في مقدِّمته؛ فقد وصف أقاليم المنطقة التي يعيش فيها العرب بأنَّها أقاليم موصوفة بالاعتدال، وسكَّانُها من البشر أعدلُ الناس أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً. حتَّى النبوَّات؛ فإنَّما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثةٍ في الأقاليم الجنوبيَّة والشماليَّة؛ وذلك لأنَّ الأنبياء والرسل إنَّما يختصُّ الله بهم أكمل الأنواع في خَلقهم وأخلاقهم...
وينبغي أن يُعلم أنَّ الشخصيَّة السويَّة ليست هي الشخصيَّة العبقريَّة النابغة، التي طبَّقت شهرتها الآفاق، فكم من المشاهير مَن يعاني من اختلال في الشخصيَّة وعُقدٍ نفسيَّة، ممَّا يؤكِّد على أنَّ التربية القويمة لا تعني النبوغ الذي يكون عليه بعض الناس..
ثمَّ إنَّ بين الظواهر النفسيَّة والجسديَّة ربطاً وثيقاً؛ فالظواهر النفسيَّة تنبثق عن الظواهر الجسديَّة _ في نظر بعضِ العلماء _ أو تتأثَّر بها، ويؤكِّد ذلك العلاقة بين الجملة العصبيَّة والأمراض العقليَّة.
وكذلك فإنَّ العلاقة وثيقة بين الظواهر النفسيَّة والمحيط الاجتماعيِّ، تصل إلى حدِّ التداخل وتبادل التأثُّر والتأثير، إذ تنتقل الحالات النفسيَّة بين الأفراد، وتنتشر وتشيع، حتَّى تتكوَّن العادات والمفاهيم والسلوكات المشتركة، التي تعمُّ المجتمع وتحكم عاداته..
ولذا فإنَّ مرحلة حضانة الإنسان في الطفولة هي أطول مرحلة حضانة بين المخلوقات، وهي أيضاً أهمّ مرحلة وأخطرها تأثيراً في حياة الإنسان ومستقبله؛ إذ فيها تتكوَّن شخصيَّة الإنسان وتتحدَّد ملامحها.. وما يأتي بعدها من مرحلة المراهقة والبلوغ إن هي إلَّا أثر من آثار مرحلة الطفولة، التي تختزن بذور شخصيَّة الإنسان، وتحتضن خصائصها وسماتها..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة