سر الله في الصدقة
قصّةٌ حدثت معي عام ١٩٨٢ ميلادي ... أشهد الله عليها
كنّا نعيش أنا وأخي الدكتور حسن ( وهو يكبرني بسنتين ) كنا نعيش في بيتنا في دمشق وحيدين لا ثالث معنا سوى الله ... وكان ذلك منذ عام ١٩٧٦ م حتى عام ١٩٨٢ م ... فوالدتنا رحمها الله ذهبت إلى ربها عام ١٩٧٦ م ، ووالدي رحمه الله كان يعيش في مكّة المكرّمة مع أمّنا الثانيه رحمها الله ، ومع أخوينا الحبيبين ( أخي الدكتور الشيخ محمد وأختي الدكتوره الشيخه صفا )
كان والدي يرسل لنا مصروفنا السنوي مع بداية السنة الدراسيّة وكان أخي حسن هو من يستلم المصروف ، فهو الأكبرُ سناً والأرجحُ عقلاً ( فأنا بطبعي لست أهلاً لتولّي مثل هذه المهمّة )
كان المصروف الذي يرسله لنا والدي على قدر الحدّ الأدنى أو أكثر بقليل من الحد الأدنى لاحتياجاتنا ، وكان في قلبي غصّةٌ مما اختاره لنا والدي من المصروف ( أدركتُ بعد أن خبرتُ الحياة صدقَ وإخلاصَ والدي فيما كان يفعله ، وأدركت رجاحةَ عقله ورشده ، وأدركتُ حرصَهُ على أن لايكون المال سبباً في إفسادنا فنحنُ شابان في ريعان الصبا نعيش وحيدين دون رقيب سيّما وأننا كنّا ممن يشار إليهم بالبنان مما يسهل معه انزلاقُنا إلى ما ينزلق إليه الشباب ، فالوسامةُ التي أنعم الله بها علينا مع المكانة الاجتماعيّة ، مع وجودنا في كلّية الطب مع ما حبانا الله من بعض الصفاتٍ الخاصّة ، مع غياب الرقيب وكلُّ هذا كان عواملَ تغري وتوقع بمن في مثل عمرنا إذا كان المالُ في أيديهم يفوق حاجتَهم !!! وهذا ما كان الوالد يخشاه ... أدركتُ بعد أن صرتُ رجلاً يعي ، وبعد أن أعطانا والدي في الوقت المناسب بسخاءٍ كلَّ ما نحتاجه ، أدركتُ أنّ والدي كان على حق ( رحمك الله يا أبي )
تخرّج أخي حسن عام ١٩٨٢ م وسافر للعمل في السعوديّة طبيبا ... وأرسل والدي لي مصروف السنّة الذي كان يرسله إلى أخي بما يكفيني بعد أن أصبحتُ وحيدا
ولأنها كانت هي التجربة الأولىٰ لي في التعامل مع مبلغ من المال بهذا القدر !!! وجدتُ نفسي تائها في مصروفي مُسرفاً ( والإسرافُ هنا لا يتعدى سوء الإدارة وعدم ضبط المصروف بما يتناسب مع عدد الأيام والأسابيع والأشهر في سنتي الدراسيّة )
ودون سابق علمٍ وجدتُني وقبل نهاية السنة بثلاث أشهر ، وجدتُني خاليَ الوفاض بعد أن قضيتُ على المصروف بالكامل ولم يبق معي ما آكل به أو أتنقّل أو أشتري من كتبٍ أو ملابس !!! سوى خمسون ليره سوريه كانت في جيب بنطالي الخلفي جعلَكَتْها يدي المُسرفة ودسّتها دون اهتمامٍ أو تركيز ( والخمسون ليرة في ذلك الوقت كانت مبلغاً جيداً يكفي شاباً في عمري لتنقلاته فقط خلال أسبوع مع عدّة أكوابٍ من الشاي يشربها في البوفيهات المجاورة للجامعة وأحياناً سندويشة من الجبن أو السجق )
كنت أذهب إلى الجامعة مشياً على الأقدام من بيتنا في الميدان إلى أتوستراد المزة لأُوفّر ثمن تذكرة الباص فالخمسون ليرة هي الحصن الأخير الذي أحتمي به
حدث ذات يوم والوقت كان حوالي الساعة التاسعة صباحاً أنني كنت نائماً في البيت وإذا بالباب يطرق ( تارةً بالجرس وتارةً بالضرب على الباب بيدٍ يصرّ صاحبها على أهل البيت أن يفتحوا !!! فاستيقظتُ مذعوراً وشَعري ( كبّاشي ) ووجهي يدلاّن على أنني في ذروة الهلع والغضب ...
فتحتُ الباب فإذا بامرأةٍ تحمل في يدها طفلةً صغيرةً مريضةً ، وتدفع في وجهي ورقةً ( وصفةً طبيّة ) ومظهرها يدل على فقرٍ أَيْأَسَ صاحبته إلاّ من أملها المعقود على هذا الباب
صرختُ في وجهها غاضباً ومؤنباً لها على طريقتها في دق الباب وإلحاحها وقلّةِ ذوقها ... فقالت لي : والله العظيم إني محتاجه إلى دواء لابنتي المريضةِ جداً ولا أملك قرشاً واحداً من ثمنه
تمالكتُ نفسي واستعدتُ هدوئي الذي طيّٰرَتْه دقّاتُها المُرعبه ، وتذكّرت الخمسين ليرة المُجعلَكةَ في جيبي ، وقلت في نفسي : هذه الخمسون لن تكفيني إلى آخر السنة ، وإن كنت أحتمي بهذه الخمسين وهي في جيبي فسأحتمي بها وهي في يد هذه الفقيرة المضطرة ، ولعلّ في شفاء ابنتها بركةٌ يعوّضني بها الله
وقبل أن يغلبني شيطاني دفعتُ يدي الى جيب البنطال اللعين وأمسكتُ بالخمسين ليرة المجعلكة وسحبتها وأنا أرتجف وأعطيتها للفقيرة وقلت لها ( روحي بسرعه قبل ما آخدها ) وأغلقتُ الباب وفي عينَيَّ دمعهْ
ذهبتُ إلى الثلاجةِ وأكلتُ ما قسمه الله لي مع ما لقيته من بقايا الخبز ... ثم أخذتُ حمّاماً ( لا ادري بارداً أم ساخناً !!! ) فالعقل شاردٌ في الأشهر الثلاثة القادمة وما تحمله لي الحاجَةُ المتوقّعة !!!
من بعدها سَشْوَرْتٍ شعري ( فالسيشوار في زماننا كان من أعمالنا البطوليّة التي ننجزها قبل أن نخرج لمواجهة هموم الحياة ومصاعبها !!!!!!!!!!!! ) ، لبستُ بنطالي الجينز الذي خسر خمسين ليرة من جيبه الخلفي وقميصي المعرّق ... وخرجت ( شبْ متل الورده بس ما في معو شي !!!!!! )
من عادتي أن أسلك طريق كورنيش الميدان إلى دوار كفرسوسه ومنه إلى الطريق التي تأخذني إلى المزّه ...
لا أدري كيف أخذتني أقدامي من الشارع الداخلي ( في منطقة الغواص ) لأجد نفسي أنعطف إلىٰ حارةٍ بجوار منزل عمّي الدكتور محمد ( استشاري أمراض الأطفال ) وهذا وقتٌ يكون فيه عمّي في عيادته ولا يكون في بيته ... ولحظة مروري تحت شباك بيته سمعتُ صوت عمّي الدكتور محمد يناديني من شباك مطبخه : وائل ... تعالْ تعالْ عاوزك
فقلتُ له : مستعجل بدي لحّق دوامي في الجامعة والمستشفى ...
فقال لي : تعالْ في شي ضروري
فدخلتُ إلى بيته وأنا في عجلةٍ من أمري ، فقال لي خذ هذا الظرف رسالةٌ من أبيك وفيها مبلغ من المال ...
فتحت الظرف فإذا به مبلغ ألفين ليره سوريه ... ورسالة من والدي يقول لي فيها يا بني استعن بهذا المبلغ على قضاء حوائجك وعليك بتقوى الله ووصيتي لك دينك وأمانتك وعلمك
وقفتُ مذهولاً أبكي بكاءً لم يفهمه عمّي ... فالدموع كانت أسرعَ من أن أمسحها ( وأنا رجلٌ دمعته قريبةٌ من وجنتيه تدفعها نبضاتُ قلبه !!! )
قال لي عمّي : إذا ألفين ليره عملوا فيك هيك !!! معناها شو بيصير فيك إذا إجاك مئة ألف ؟! )
نظرتُ إليه بعينٍ ترى سرَّ الله في الصدقةِ الخالصةِ لوجهه وانصرفتُ على عجل ...
اختلَفتْ مشْيَتي ، وأصبحت خطواتي وقورةً ، وأوقفتُ تاكسي صَفرا أكل عليها الزمان وشرب ... وقلت للسائق : عَ المزّه إذا سمحت عند كليّة الطب ...........!
رحمك الله يا أبي ... وبارك الله بك يا عمي .... ولك الحمد ربّي على ما أنعمت وأجزيت ، وقضيتَ وعلّمت
الدكتور وائل عبد الرحمن حبنّكه الميداني
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة