الإعراب في معناه الوضعي الذي ترشد إليه المعاجم يتركّز على الإيضاح، قال الأزهري (370هـ) في "تهذيب اللغة": "الإِعْرابُ والتَّعْريبُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الإِبانةُ، يُقَالُ: أَعْرَبَ عَنْهُ لِسانهُ وعَرَّبَ أَي أَبانَ وأَفصَحَ"، وقال ابن منظور (711هـ) في "لسان العرب": "وإِنما سُمِّيَ الإِعراب إِعرابًا، لِتَبْيِينِهِ وإِيضاحه".
ومن هذا المنطلق ينبغي أن يتّسم كلام العربيّ بالوضوح. فإذا خرج الأمر عن مساره فقَدَ الإعراب غايته، وانتقل إلى عمل منطقيّ معقّد، يهدف إلى التعليلات الشاقّة، والتكلُّفاتِ الـثقيلة.
وسبب كتابة هذا البحث إجماعٌ قديمٌ على إعرابِ آية إعرابًا واحدًا، وجدتُه لا يشفي الغليل، على الرغم من الجهود الوافرة لإقراره، بل أجسر أن أقول إنّه ينأى بالذوق العربي عن مساره الناصع، وينأى بالتركيب القرآني عن مألوفه. ورأيت المعاصرين من المفسّرين لا يخالفون هذا الإعراب!
ولستُ مـمّن يتجاسر على الانتقاص من تراثنا، أو توهين قدْر علمائنا الأفذاذ، ولكن الغيرة على جهودهم تُوجِبُ علينا أن نـنقِّيَها من بعض ما يعرض لها من شوائب- وليس هذا البعضُ كثيرًا- حتّى نحقِّق ما طمح له هؤلاء أنفسهم من بلوغ الحقيقة الناصعة.
لقد استوقف شطر آية من سورة الكهف طوائفَ من المهتمين بالقرآن، والشطر هو: {لكِنَّا هو الله ربّي}.
فقد أربكهم وجود هذه الألف في "لكنّا"، خلافًا للمألوف، فقال بعضهم إنّها تُـلفَظُ في حالتي الوقف والوصل، وقال آخرون بل تُلفَظُ في حالة الوقف دون حالة الوصل. لكنهم اتّفقوا في أنّ هذه الألف هي ألف "أنا"، وأنّ أصل الكلام: "لكنْ أنا هو الله ربّـي"، ثمّ حُذِفَتِ الهمزة من بداية "أنا"، فالـتقت النونان، نون "لكن" ونون "أنا"، فأدغِـمَـتا.
قاله النحويون بَدءًا بالكسائي (189هـ) والفرّاء (207هـ) والمازني (249هـ)، وتابعهم مصنّفو كتب إعراب القرآن، ومصنّفو كتب حروف المعاني، والمفسِّرون القدامى.
وكذلك أربكهم عدم وجود اسم وخبر واضحين، لهذه الأداة. ثم قالـوا محاولين إيجاد مخرج لذلك: إنّ "لكنْ" وَفقَ هذا التأويل باتت مخفَّفة، وهي لا تعمل، فليس لها اسم ولا خبر. قال المالقي (702هـ) في "رصف المباني": "لكنّ: تخفَّف ولا تعمل...".
وجعلوا إعراب ما بعدها على النحو التالي:
أنا: الضمير المنفصل (مبتدأ أوّل)
هو: ضمير الشأن (مبتدأ ثانٍ)
الله: لفظ الجلالة (مبتدأ ثالث)
ربي: خبر المبتدأ الثالث
الله ربي: جملة اسمية في محل رفع خبر المبتدأ الثاني
هو الله ربي: جملة اسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأوّل.
وإنّنا نجد في هذا الإعراب، والتغييرات التي ظلّت تدور في فلكه، سقم التركيب، وبُعْدَ التأويلِ، وافتراضِ المضمَرات. وهذا يكرهه النحويون.
ولذلك، ارتأيتُ إعداد هذه الدراسة النقدية، أستعرض فيها مستندات هذا الإعراب، عارضًا إياها على معايير الرواية والتوثيق، وعلى معايير المنهجية النحوية، لعلي أسهِم في بلوغ الصواب، على بصيرة.
***
أورد ابن عطية (541هـ) في "المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز" قراءة مطابقة باللفظ لما آل إليه تأويل النحويين: "لكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي"، ونسبها إلى أُبَيِّ بن كعب (21هـ) ، وغيره. ولم أجد لهذه القراءة ذِكْرًا في الكتب التي تسرد القراءات الـمتواتِرة،ككتاب ابن الجزري (833هـ) "النشر في القراءات العشر".
وقد ذكر ابن جني (392هـ) هذه القراءة، لكنْ في كتاب يـحكي القراءات الشاذة، وهو "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها".
والقراءة الشاذة في الـنحو يحتجّ بها، ولكن، هل يجدر أن نتّبع قراءة تخالف سائر القراءات، وتكون دونَها في التواتر، وأضعف منها في السند؟ وقد نصّ العلماء على الضعف في قراءة أبي بن كعب، كما قال العالم المعاصِر عبد العزيز الطريفي في "التقرير في أسانيد التفسير"
وهذه الألف التي تقع متطرفة في "لكنّا"، ولا تُلفَظُ إلّا عند الوقف، أوحَتْ إلى النحويين أنّها ألف "أنا" التي يسري عليها هذا الوصف.
لكنّ اللغة العربية تتضمّن حالات أخرى ترِد فيها الألف على نحو ألف "أنا"، وقد سـمّى ابن جنّي في "الخصائص" هذه الحالات "مَطْل الفتحة"، وهو أن يُشبِعَ العربيُّ الفتحة، ويُنشئَ عنها ألفًا.
ومن هذه الحالات في القرآنِ نفسِهِ الآية: {وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا}، والآية:{يقولونَ يا لَيْتَنَا أَطَعْنا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}، والآية: {وقَالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنا وَكُبَراءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}، والآيةُ: {وأَكْوَابٍ كانَتْ قَوَارِيرا}.
وعليه فلا لزوم لحمل "لكنّا على "أنا"، لأنّ الظّاهر مُتاحٌ، فـ"لكنا" كلمة واحدة، أُشبِعَت ألفها، وَفقَ كلام العرب الفصحاء، ووفق آياتٍ محكمة متواترة القراءة.
وكان على العلماء أصحاب ذلك الإعراب السائد أن يشرحوا لنا كيف سقطت همزة "أنا"، حتى الْتَقَتِ النُّونانِ فأُدغِمَتا. فَهي قد حُذِفَت تخفيفًا. واستندوا، مثلًا، إلى نظيرها في "الإله"، فقد أسقِطَت الهمزة لكثرة الاستعمال، ثمّ أدغِمَت لام التعريف باللام الأصلية، كما قال الطبري (310هـ)، والجوهري (393هـ) في "الصحاح"، والأصفهاني (502هـ) في "غريب القرآن"، والزمخشري (538هـ) في "الكشّاف". لكنّ ما ذكروه ليس موضع إجماع.
فثمة رأي ثانٍ، نقله الخازن (741هـ): "وقيل أصله وِلاه، فأبدلت الواو همزة"، وقد وجدنا في كتاب "الممتع في التصريف" لابن عصفور الإشبيلي (669هـ) ما يقوّي هذا، وتابعه ابن منظور (711هـ) في "لسان العرب".
وثمة رأي ثالث أورده القرطبي (671هـ): "أَصْلُ الْكَلِمَةِ "لَاهٌ"، وَعَلَيْهِ دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ (180هـ)".
وذلك رأي تسنده شواهد شعرية كثيرة، ورد فيها اسم الجلالة بهذا اللفظ. وأقدم ذلك ما ذكره ابن الأثير (630هـ) في "الكامل في التاريخ" من قول عبد المطلب بن هاشم، لدى حصار الكعبة:
لاهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَـمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ
فـ"لاهمّ" هي التي نعرفها بـ"اللّهمّ"
وثمة رأي رابع ذهب إليه الخليل بن أحمد (170هـ)، ونقله ابن منظور (711هـ): "(اللَّهُ) لَا تُطْرَحُ الأَلف مِنْ الِاسْمِ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ عَلَى التَّمَامِ". وقد ذهب إليه الـمازني (247هـ). وقال الزركشي (794هـ) في "معنى لا إله إلا الله": "اسم الله تعالى وقع هكذا في أول أحواله، ليس أصله (إله)". وهذا الرأي شديد القوّة.
ولسنا في واردِ الفَصْل الجازم في هذه المسألة الدقيقة، فذلك يحتاج إلى كتاب خاص، لكنّ الواضح أنّ الرأي الأوّل غير متين، فليس من الصائب الارتكاز عليه، وكأنّه من الـمسلَّمات، لتسويغ إعراب آية.
***
ولم ينصّ علماء النحو على تتالي ثلاثة مبتدآت، وإنْ لمْ ينصّ أيّ نحويٍّ على منْـعِه.
ولم يورد من أعربوا الآية على الوجه المذكور نظيرَه في أيّ كلام فصيح، وإنما غاية ما يفعلونه أن يأتوا بمثالٍ نثري يصطنعونه. ومن ذلك قول أبي حيان (745هـ) في "النهر المادّ": "وصار التركيب نظير (هندٌ هو زيدٌ ضَرَبَـها)". ولم يعطِ تركيبًا منقولًا عن فصحاء العرب.
لكن الشاهد موجود في الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. فـ"الذين" اسم "إنّ"، وجملة "أولئك عليهم لعنة الله.." خبر "إنّ". وهذا الخبر مؤلَّف من المبتدأ "أولئك"، والخبر جملة "عليهم لعنة الله". وجملة "عليهم لعنة الله" مؤلفة من المبتدأ "لعنة"، والخبر "عليهم". فإذا عدَدنا "الذين" بمنزلة المبتدأ الأول، باعتبار الأصل قبل دخول الناسخ، فإنّ "أولئك" هي المبتدأ الثاني، و"لعنة" هي المبتدأ الثالث. وهذا قول محيي الدين درويش (1982م) في "إعراب القرآن وبيانه"
ومن ذلك أيضًا الآية: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، حيث "جزاء" مبتدأ أول، و"مَن" مبتدأ ثانٍ، و"هو" مبتدأ ثالث.
فلا مجال لتوهين إعراب {لكنّا هو الله ربّي} من هذا المنفذ بالتحديد. غير أنّنا نُبقي على ملاحظة أنّ تتالي المبتدآت الثلاث قليلٌ في العربية.
***
ويبدو أن تتالي ضميرين مختلفين، الأوّل للمتكلِّم، والآخِر للغائب، دون أن يكون ضمير الفصل، لا نجده منتشرًا في كلام العرب، وهذا يؤدي إلى سؤال ملحّ: كيف إذًا تؤوّلون الآية {لكنّا هو الله ربي} تأويلًا يحوي "أنا هو" متتابعين؟؟
بحثت عن مثل هذا التركيب في القرآن، وفي المعلّقات العشر، وفي ديوان الفرزدق (110هـ)، وفي ديوان الحماسة لأبي تمام (231هـ)، وفي ما ساقه الجاحظ (255هـ) في "البيان والتبيين" من نثر العرب وشعرهم، فلم أجد.
وحـتّى ما عثرت عليه في مصادر أخرى، وجدتُ فيه أنّ ضمير "هو" مُفسِّره ينطبق على ضمير المتكلِّم نفِسِه.
ومن ذلك حديث رواه الترمذي (279هـ): "من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثَّل بي". فالنبي- وهو المتكلّم- يشير إليه هنا أيضًا الضمير هو، ومفسِّرُه: الـمَرئيّ.
أمّا قولُنا "أنا هو الله ربي" فضمير "أنا" فيه يشير إلى الـمُحاوِر الصالح، وضمير "هـو" يعود إلى الله عزّ وجلّ.
وهكذا يتبيَّن أنّ التركيب الذي آل إليه التأويلُ لا نظير له في اللغة العربية، فيشفعَ له، ويُكسِبَه الشرعية.
***
وذهب الفرّاء (207هـ) والطبري (310هـ) والزمخشري (538هـ) والقرطبي (671هـ) وغيرهم، في الاستدلال على أنّ أصل "لكِنَّا": لكن أنا، إلى أن ذلك يشبه البيت القائل:
وَتَرْمِينني بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ وَتَقْلينَني، لكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلي
قال الفراء (207هـ) في "معاني القرآن": فالشاعر يريد "لَكِنْ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْلِي"، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ أَنَا، فَالْتَقَتْ نُونُ أَنَا وَنُونُ لَكِنْ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَأُدْغِمَتْ فِي نُونِ أَنَا، فَصَارَتَا نُونًا مُشَدَّدَةً.." وقال مثله الزمخشري (538هـ) في "الكشّاف".
ولكنّ أبا حيّان (745هـ) يقول: "لا يتعيّن ما قاله في البيت، لـجواز أن يكون التقدير (لكنني)، فحذف اسم لكن. وذكروا أنّ حذفه صحيح إذا دلّ عليه الكلام...".
وما ذهب إليه أبو حيان (745هـ) سيؤسّس لأفضل إعراب بديل مقترح، يزيل كل الافتراضات الهشة السابقة، معَ أنّه هو نفسه أيّد الإعراب المجمَع عليه!
***
الإعراب المقترح سيقوم على أنّ الألف في "لكنّا" زائدة، وهي تُلفَظ عند الوقف دون الوصل، وأنّ اسم "لكنّ" هو الجملة المحكية "هو الله ربي"، وأنّ خبر "لكن" محذوف تقديره "قولي".
ويجوز العكس، الذي ألـمح إلى شطر منه أبو حيّان (745هـ)، وهو أن يكون اسم "لكنّ" محذوف. فيكون بناءً على ذلك تقدير الاسم "قولي"، ويكون خبر "لكنّ" هو الجملة المحكية "هو الله ربي".
أمّا أنّ الألف في "لكنّا" زائدة، فقد أوضحنا أن الـقرآن احتوى على نظائرها، وكذلك بعض الشعر، والمنقول النثري من كلام العرب الفصحاء.
وأمّا وقوع اسم الناسخ (أو خبره) جملة محكية، فأمر لا شبهة فيه، وجوازه بالتبَع لجواز وقوع المبتدأ أو الخبر جملة محكية، وقد وقع إقرار النحويين له، فالمبتدأ جملة محكية في نحو "إنّ أخاكَ مَن واساكَ، مثلٌ قديمٌ"، والخبر جملة محكية في نحو: "كلامي: الـجوّ معتدل"، كما يقول عباس حسن (1979م) في "النحو الوافي"
والمراد بالجملة المحكية أن نقول في {هو الله ربي} إنّه اسم لكنّ منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة، منع من ظهورها انشغال المحل بحركة الحكاية، كما نقول في "لا إله إلا الله خيرُ ما يقول مؤمـن": إنَّ "لا إله إلا الله" مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة، منع من ظهورها انشغال المحل بحركة الحكاية. وقد فصّل الأمر الأخيرَ عبده الراجحي (2010م) في "التطبيق النحوي".
وثمة مؤيِّد كبير لذلك في الحديث الشريف الذي رواه مسلم (261هـ): "... وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ..." ، فالجملة "الحمد لله" محكية، وهي المبتدأ.
وما يصحّ في حذف المبتدأ والخبر يصحّ في حذف اسم الناسخ وخبره.
ومثال حذف المبتدأ قبل الجملة المحكية ما رواه أحد الصحابة عن النبي، عليه الصلاة والسلام: قَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، رواه البخاري (256هـ)، فالتأويل: الكلمة (مبتدأ) لا حول ولا قوة إلا بالله (خبر/ جملة محكية).
وأمّا حذف خبر لكن، فقد ساق العلماءُ دليلًا عليه قول الفرزدق (110هـ):
فلو كنت ضَبـــِّـــــــــيًّا عرفت قرابتي ولكنَّ زنجيٌّ عظيمُ الـمشافِرِ
قال المالقي (702هـ) في "رصف المباني": البيت مرويّ على وجهين: بنصب زنجي على أن يكون اسمَها، وخبرها محذوف تقديره يعرف قرابتي، وروي برفع زنجي على أن يكون خبرها، واسمها مضمر تقديره: ولكنك زنجي.
وقد اعتمدنا في الإعراب المقترح حذف خبر "لكنّ"، لأنّ سيبويه (180هـ) يرى أنَّ حذفه أكثرَ في كلام العرب من حذف اسمها.
وقد اخترتُ تأويل خبر "لكنّ" المحذوف بلفظ "قولي"، استرشادًا بعدّة مفسّرين قالوا في تأويل الآية "لكن أنا أقول هو الله ربي"، لأنّ السياق يقتضي مقابلة القول بالكفر، بالقول بالتوحيد: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}.
ومن هنا فكرة الاستدراك التي عبّرت عنها "لكنّ".
وهكذا، نجد أنَّ هذا الإعراب قويّ مـتماسك، لا يتخلله أيّ مطعن.
أورَد الميداني (518هـ) في "مجمعِ الأمثال" العبارة الذهبية التالية، التي قالها العربُ أنفسُهم في قديم تاريخهم: "لِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَة، ولكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ، ولكلِّ عالِمٍ هَفْوَة". فلا النَّبْوَةُ أزالَت عن السيف صفة الصارم، ولا الكَبْوَةُ أزالت عن الحصان صفة الجواد، ولا الهَفْوَةُ أزالت عن الكاتِبِ صفة العالِم.
وقد وجدتُ أنّ الصواب يقتضي اقتراح بديل للإعراب السائد، حتّى لا يُقال إنَّ الأمر لا يتعدّى الانتقاد وتعقُّب الخلل، دون التمكُّن من إبراز تصوُّرٍ خالٍ من الشوائب، ضمن المعايير التي رفضتُ بها ما سبق.
وخلاصة الإعراب المقترح في {لكنّا هو الله ربيّ} أنّ الألف في "لكنا" ألف المطل أو الإشباع، وهي فصيحة في كلام العرب، وأنّ الجملة المحكية "هو الله ربي" اسم "لكنّ"، وأنّ خبرها محذوف تقديره "قولي".
وإنّني بعد كتابة هذا البحث أرغب إلى الباحثين أن يُلِحّوا على ما أنتجه علماؤنا الأجلّاء في ميدان إعراب القرآن، ليكتشفوا العمق الذي تجلّى في نظراتهم، والأفق المعرفيّ الذي تحلَّوا به، والمنهجية الدقيقة التي اتّبعوها.
ولعلّ ما أستشرفه بعدَ هذه الدراسة أن نفتح الباب أمامَ نظراتٍ بلاغية جمالية في اجتهادات الإعراب للنصوص القرآنية، كي تواكِبَ الدقّةُ التركيبيةُ سموَّ الذَّوقِ، فقد نتوصّل بعدَ حين إلى الحديث عن "الإعراب الجمالي"، كـما أحدثَ غيرُنا مصطلح "الـنحو الجمالي"، كما سمّاه إبراهيم سلامة (1989م) في "بلاغة أرسطو بين العرب واليونان".
وأسأل الله أن يُتاحَ للإعراب الذي اقترحتُه نظراتٌ ناقِدة، تُسَدِّد ما فيه من خلل، أو تؤيِّد ما فيه من صواب.
[1] *المقالة اختصار لكتاب لي يحمل الاسم نفسه، وقد طبعته دار الكتب العلمية عام 2018م، ويمكن الاطلاع عليه عبر هذا الرابط:
https://ia601508.us.archive.org/28/i...8%A8%D9%8A.pdf
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة