القول الفصل.. بين الظلم والعدل!
لقد جعل الله تعالى الظُلم مُحرَّمًا على ذاتِه العلِيَّة، فقال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي! إِنَّي حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلْتُهُ مُحَرَّمًا بينَكم فلا تَظَّالموا".. وإذا كان الله سبحانه جعل الظلم المنافي في معناه للعدل محرَّمًّا عليه فلا بدّ لعباده ألّا يكونوا ظالمين لا لأنفسهم ولا للناس من حولهم سيّما إذا ما كانوا في موقع السلطة والاقتدار مصداقًا لقول الإمام علي كرّم الله وجهه:
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِرًا فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
والعلّة المانعة من الظلم قد تجتمع في أربعة أو في واحدة منها: (السلطان؛ الدين؛ العقل؛ العجز)، وأشدّ هذه الأربعة تتمثّل في السلطان الذي قيل عنه في الحديث الصحيح: (إنَّ السُّلطانَ ظلُّ اللَّهِ في الأرضِ يأوي إليهِ كلُّ مظلومٍ من عبادِه..)، وعن سيدنا عثمان رضي الله عنه قال: (إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وإذا ما كان السلطان المسلم مغيَّبًا كما هو حال أمّتنا اليوم فقد استدرك الإسلام ذلك بمسؤوليّة جماعة المسلمين في ذلك. ومن المؤكّدات النبويّة لما نقول قوله صلى الله عليه وسلم للأفراد وللأمّة مجتمعة. في ذلك الشأن العظيم أمّا قوله للأفراد فهو يخاطب كلّ مسلم ومسلمة: "انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ" صحيح البخاري.
إنّ الأمّة إذا ما تغاضت أفرادًا أو جماعات عن ردع الظالم وكفّ غيّه وأذاه فقد استحقّوا ما قيل عنهم في الحديث الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النَّاسَ إذا رأَوْا ظالمًا فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ" صحيح. وهو ما يعني أنّ السكوت عن ظلم الظالم أو تزيينه وتحريف الكلام فيه بما يناسب قلب الحقائق وجعل الباطل حقًّا والحقّ باطلًا لا يقلّ ظلمًا عن الظلم ذاته. وفي ذلك يقول أحد الحكماء: "المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في سكوت الأخيار". وقد جعل الإسلام منازل الظالمين في شرّ منزلة يوم القيامة هم وأزواجهم المماثلين لهم في ظلمهم نصرًا باليد أو باللسان. قال تعالى: (﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾. وقد رفع الله تعالى عن دعوة عبده المظلوم الحجاب لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" فهي تُحمل على الغمام وتُفتح لها أبواب السماء وينادي الله تعالى وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين.
وقد جاء في الحديث الصحيح "اتَّقُوا الظُّلمَ ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ". ومن هنا يمكننا القول أنّ مراتع الظلم والظالمين وخِيم العاقبة على أصحابه، ومهما كان نوع هذا الظلم في نظر أصحابه قليلًا أو كثيرًا فقد أبان الإسلام الفرقان في ذلك وجاء في الحديث النبوي: "مَن ظلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ من الأرض طُوِّقَه من سبع أرضين"؛ متفق عليه. فالعبرة منع الظلم في أصله وليس في نوعه ولا في مقداره. وقد علّم الله عباده أن يتأسَّوْا بخالقهم أوّلًا في تعلّم معنى العدل واجتناب كلّ أنواع الظلم. فيقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾] النساء [40.
ولا شكّ أنّ أهل الظلم يستمدّون ظلمهم من قدرتهم البدنيّة وجبروتهم في الأرض طولًا وعرضًا. وقد كان لعاد وثمود أوّلًا ولفرعون ثانيًا الأمثولة في ذلك، فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ14))، فهذه الآيات الكريمة جمعت الأمثال في بيان ظلم الأفراد والجماعات، والتي تجاوز أصحابها الحدود في ظلمهم إلى حدّ الطغيان والإكثار من الفساد، فكان عاقبتهم أنْ صبَّ الله عليهم السوط من العذاب. ومن الأحاديث النبويّة في قوله صلى الله عليه وسلّم:" إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيد"ٌ. صحيح. ومن هنا نقول أنّ الظلم الواقع من المحسوب على الإسلام صاحبه ولو بالشكل والقول، لهو أشدّ شرًّا من ظلم الكافرين الذي يُعَدُّ كفرهم هو بحدّ ذاته من أشدّ أنواع الظلم، والله تعالى يقول: (والكافرون هم الظالمون). ولكن وكما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنَّد.
فمن هم أولي قربى وأولي نسب وأولي دين واحد يُعَدُّ ظلمهم أشدُّ أثَرًا ومرارة ممّن هم غرباء في ذلك كلّه. وقد يكون هذا الظالم حاكمًا ومحسوبًا على المسلمين. ويضع آية العدل في باب قصره مكتوبة بالأحرف الذهبيّة. ولكنّ الواقع هو خلاف ذلك تمامًا، وهو يحسب نفسه أنّه بخداعه الناس المُغّرَّر بهم لبساطتهم وطيب قلوبهم أنهم له مطواعين وإلى الأبد له خاضعين. ولكنّ الحقيقة هي غير ذلك، ولنا في التاريخ القديم أمثال وعبر. حيث أنّ مراتع الظالمين كانت مهلكة لأصحابها والقرآن أفاض في الحديث عن ذلك وأمر الله عباده الاعتبار من ذلك كلّه. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾] الروم9 [. ويمكن لنا القول أن ظلم الحاكم المحسوب على الإسلام هو المراد رفعه أوّلًا لأنّه واقع في ديارنا وتحت رقابنا. وأمّا نسبة الظلم فقط للكفّار الآتين من وراء البحار فهي كلمة حقّ يُراد بها باطل. ذلك أنّ لنا من الشواهد في ظلم حكّام العرب الجاثمين على رؤوسنا منذ مديد من الأجيال يكاد يفوق ظلم أصحابه، ما فعله أعداء الإسلام مجتمعين، في الكمّ والنوع معًا. وما ينفع أن يحمل الحاكم اسمًا مسلمًا ويرتاد المسجد في الأعياد تحت مرأى ومسمع الإعلام، ويظهر التبتُّل والخشوع لسماع القرآن أو خطبة العالم المشتملة على دسّ السمّ في الدسم بأسلوب شيطانيّ فتّان، وخارج المسجد عالم آخر من الظلم والطغيان. حيث وجد العالَم ومنذ أيّام معدودات ما يشيب لهوله الولدان، ويكاد يكون من الأساطير والخرافات في ما هو حقيقة من مراكز التعذيب، الذي يساوي الإنسان المكرّم عند الله بآدميَّتِه وكونه خليفته في أرضه بالبهيمة التي لا تستحقّ إلّا القهر والسحل والحرق والتذويب، وكلّ أنواع التنكيل الذي وقفت محاكم التفتيش في الأندلس عاجزة عن تقليده في نمطه الحديث. وقد تمادى القوم ومن هو حاكم عليهم في ظلمهم وطغيانهم، إلى درجة الكفر البواح والتعدّي على الذات الإلهيّة بالشتم والقدح. وتشديد العذاب على من يذكر اسم ربّه وهو تحت رحمة جلّاده في أقبية مظلمة تحت الأرض لا ترى الشمس ولا الهواء. وليس لك أيّها الأسير المحروم من أدنى مقوّمات الحياة إلّا أن تقول كلامًا يساوي بين إلهيْن واحدٌ في الأرض والثاني في السماء. بل إنّ إله الأرض عندهم أهم من إله السماء وحاشا لله في ذلك. فمَن أقرّ لجلّاديه بذلك أشفقوا عليه ومنحوه بعض الفتات من الخبز اليابس الممزوج بنجاسات السجّانين. ولا تنسى اغتصاب الحرائر العفيفات، وجعلهنّ يحملْنَ سفاحًا بعد مضيّ سجنهم عشرات السنوات. إنّ ممّا قلناه وذكرناه ليُعَدُّ غَيْضًا من فَيْضٍ ممّا عرفه العالم ورآه، ورأى من يتاجرون بقضايا الأمّة وعلى رأسها القضيّة الأم قضيّة فلسطين، وأنّ هذه البقعة المباركة الأسيرة حرَّرها الله على أيدي الشرفاء. أهل العدل والإحسان لا أهل الظلم والطغيان. وقد أحسن الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام القول: "إنّ الله لينصرُ الحاكمَ العادلَ وإنْ كانَ كافرًا ولا ينصرُ الحاكمَ المسلمَ إنْ كانَ ظالمًا". وهكذا وجد العالم في تاريخه المديد نماذج مختلفة لنهاية الطغاة الظلمة على مرّ العهود. فمن فرعون إلى النمرود، الأوّل لَفَظَهُ البحر غرًقا، والثاني أهلكته واحدة من البعوض. وانظروا إلى آثار ظلم عاد ثمود، دمّر الله بنيانهم وأخذهم أخذًا غير معهود. وفي التاريخ الحديث مرّ علينا ظلم الجبابرة في بلاد الشرق والغرب، ممّن ملكوا رقاب العباد وساموا شعوبهم ألوان الذلّ إلى أجل غير معدود. ولبلاد المسلمين نصيب من هذا الظلم الموصوف، حيث نال أهل الدعوة والحقّ في بلاد الشام والرافدَيْن وأرض الكنانة ومبعث الرسالة في بلاد الحجاز من أنواع الظلم والقتل ما تشيب لهوله الولدان وتطير منه العقول. وقد أجرى الله سُنَنَه التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، ويجدها من يطلبها في كتاب الله شاهدة باقية إلى يوم الدين. ومن هذه السُنَن في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ ]إبراهيم [42وقد يأت العذاب قبل ذلك في الدنيا:﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ﴾] القمر [42 وأيضًا وهم بين الحياة والموت: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾] الأنعام[93.
ومن لا يصدّق ما قد مضى فليصدّق اليوم ما قدر رأى. والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾] النازعات [26. ذلك أنّ السماوات والأرض قامتا بالعدل. وأنّ الميزان هو مصدر العدل في البيع والشراء كما هو في الحكم بين الناس بالقسط والإحسان: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾]الرحمن [9جعلنا الله وإياكم ممّن يكرهون الظلم وأهله ويحبّون العدل وأهله. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
القول الفصل.. بين الظلم والعدل!
الأُسرة السوريّة خارج القضبان
هل انتصرت سوريا أم انتصر أعداؤها؟
ما الذي يحدث اليوم في سورية؟
مَعركةُ الأمّةِ الأولى