حكم الإسلام في كشف الرجال لأفخاذهم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المعلمين وإمام المجتهدين.
وبعد، فإن من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان- رجلاً كان أو امرأة- أمره بستر عورته واعتباره ذلك من متطلبات التزين الذي تتطلبه النفوس السوية وتقتضيه الفطر السليمة ويستلزمه خلق الأحياء.
ومن المعلوم أن التهاون في كشف العورات مفسد للأخلاق ومثير للشهوات وعنوان على قلة الحياء وضعف التدين.
ولئن اعتيد من النساء الفاسقات والرجال الفاسقين الاستهتار في ستر العورات إلا أن من دواعي الأسف أن ينتشر ذلك بين بعض المنتسبين إلى التدين، وذلك بكشف النساء شيئاً من عوراتهن كالساقين مثلاً أو بالخروج متزينات مثيرات للفتنة أو لابسات لألبسة ضيقة تحجم العورة وتجسم مواضع الفتنة، أو بكشف الرجال لأفخاذهم بحجة أن بعض الفقهاء يجيزون ذلك.
والحق أن كشف الرجال أفخاذهم أمام النساء أو الرجال، في الشوارع أو البيوت: حرام لا يقره الشرع ولا الذوق والأدب، ويستثنى الكشف إذا كان ثمة حاجة كحاجة الاغتسال مثلاً أو أثناء الاتصال بالزوجة، ,عن كان الأفضل حتى في هاتين الحالتين الاستتار (يراجع المجموع للإمام النووي: 3/116). والدليل على ما تقدم: الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في عد ما بين السرة والركبة عورة ثم ما فهمه العلماء والفقهاء منها.
أولاً: الأحاديث
1-حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما تحت السرة إلى الركبة عورة" رواه الدارقطني في سننه بهذا اللفظ، ورواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده وغيرهما بنحوه بسند حسن.
2-حديث جرهد- وهو صحابي من أهل الصفة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"غط فخذك فإن الفخذ عورة" رواه الترمذي في سننه في أبواب الاستئذان والآداب، باب (ما جاء أن الفخذ عورة) وقد كرره ثلاث مرات من ثلاث طرق عن جرهد رضي الله عنه وحسنه، كما أخرجه أبو داود وأحمد وابن حبان وصححه.
3-حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الفخذ عورة" أخرجه الترمذي في الباب السابق نفسه بعد حديث جرهد ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
4-حديث محمد بن عبد الله بن جحش ولفظه نحو ما تقدم، وقد أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه.
وتوجد أحاديث أخرى غير هذه الأحاديث ولكنها ضعيفة بينما الأحاديث المذكورة صحيحة، على الأقل بمجموعها وتعاضد طرقها. بل قال الإمام البيهقي في سننه الكبرى _2/228) بعد أن ساق الأحاديث الثلاثة الأخيرة بأسانيدها:"وهذه أسانيد صحيحة يحتج بها".
وقال الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار" (1/274):"وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار متوافرة صحاح فيها أن الفخذ عورة".
أما ما ورد من أحاديث معارضة للأحاديث المتقدمة [كحديث السيدة عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتها كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس النبي صلى الله عليه وسلم يسوي ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرجت قالت له عائشة: دخل عليك أبو بكر فلم تجلس ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟!! فقال: ألا أستحيي ممن تستحي منه الملائكة" رواه مسلم، وحديث أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فأجرى في زقاق خيبر ثم انحسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم " رواه الشيخان] فقد قال الإمام النووي عن الحديث الأول: لا دلالة فيه على أن الفخذ ليس عورة لأنه مشكوك في المكشوف... ولأنه قضية عين (أي حكاية حال) فلا عموم لها ولا حجة فيها. وأجاب عن الحديث الثاني بأنه محمول على أنه انكشف الإزار وانحسر بنفسه لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد كشفه بل انكشف لإجراء الفرس. يراجع المجموع 3/170، و"نيل الأوطار1/262.
ثانياً: أقوال الفقهاء
ذهب أكثر الفقهاء وأغلب أهل العلم إلى اعتبار الفخذ من العورة، وهو القول المعتمد في المذاهب الأربعة، فلا يفتى إلا به. فهو الراجح لاستناده على ما تقدم من الأحاديث وبالتالي لا يلتفت إلى القول الضعيف الشاذ الذي قال به نفر قليل
من العلماء وراح يتمسك به من لم يطلع على حقيقة المذاهب الأربعة أو من في نفوسهم هوى وميل إلى الشهوات، ورحم الله من قال من السلفLلا يأخذ بالقول الشاذ إلا الشاذ)!!
ومن الضروري في هذه المناسبة لفت النظر إلى القاعدة التي ذكرها الإمام ابن السبكي في كتابه الأصولي "جمع الجوامع" وشرحها الإمام جلال الدين المحلي (2/361 من حاشية البناني): والعمل بالراجح واجب بالنسبة إلى المرجوح، فالعمل به ممتنع، سواء كان الرجحان قطعياً أم ظنياً.اهـ.
ولزيادة التوثيق سنستعرض أقوال المذاهب الأربعة:
1-مذهب الشافعية:
* جاء في كتاب "المهذب" للإمام الشيرازي (1/167 من المجموع شرح المهذب): وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليسا من العورة.
* وقال الإمام النووي رحمه الله في "المجموع" 1/168: قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي على أن عورة الحر والعبد ما بين سرته وركبته وأن السرة والركبة ليسا عورة.
2-مذهب الحنفية:
* جاء في كتاب "بداية المبتدي" للإمام المرغيناني (1/43 من الهداية شرح البداية)- وهو من أهم متون المذهب الحنفي-: وعورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة والركبة من العورة.
* وفي كتاب "الدر المختار" للعلامة الحصكفي (1/190 بحاشية الطحطاوي): وعورة الرجل ما تحت سرته إلى ما تحت ركبته. وعلق العلامة الطحطاوي: وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، حتى لو رأى مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن ألح، ومكشوف الفخذ ينكر عليه بعنف ولا يضربه إن ألح، ومكشوف السوأة يأمره ويؤدبه إن ألح.
3-مذهب الحنابلة:
* عورة الرجل على المعتمد في المذهب الحنبلي هي ما بين السرة والركبة. وعلى هذا اتفقت متون المذهب كما في زاد المستنقع (ص22) وشرحه الروض المربع (ص53) ودليل الطالب (ص25).
* وفي كتاب "الكافي" للإمام ابن قدامة المقدسي (1/11):(وعورة الرجل ما بين سرته وركبته... وعنه أنها الفرجان). فدل أولاً على أن المذهب هو أن ما بين السرة والركبة عورة، وثانياً أنه منقول عن الإمام أحمد رواية في أن العورة هي الفرجان فقط. ولكن هذه الرواية لا يفتى بها لأنها غير معتمدة في المذهب ولذلك قال ابن قدامة نفسه في كتابه العظيم "المغني" (1/578): والصالح في المذهب أن العورة من الرجل ما بين السرة والركبة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء.
4-مذهب المالكية:
يتلخص مذهب المالكية في أن عورة الرجل عندهم يختلف تحديدها بحسب اعتبارين: أحدهما بالنسبة للرؤية والآخر بالنسبة للصلاة. أما بالنسبة للرؤية فعورة الرجل ما بين السرة والركبة على المشهور في المذهب. وهذا يقتضي- كما قال العلامة العدوي المالكي في حاشيته النفيسة على شرح الرسالة وهي من أشهر متون المذهب المالكي (1/137)-: أن الفخذ من الرجل عورة فيجب عليه ستره ويحرم عليه كشفه والنظر إليه.
وأما بالنسبة للصلاة فعورة الرجل فيها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العورة المغلظة وهي الذكر والأنثيان من القبل وما بين الأليتين من الدبر (وبالتحديد حلقة الدبر).
والقسم الثاني: العورة المخففة وهي من شعر العانة إلى السرة من القبل، والأليتان من الدبر.
والقسم الثالث: ما سوى العورة المغلظة والمخففة وهو الفخذان.
وفائدة هذا التقسيم إنما هو بالنسبة لأثر كشف شيء من هذه العورات على صحة الصلاة وعلى إعادتها وليس بالنسبة للكشف أمام الناس ولا بالنسبة لنظر الناس إلى شيء منها، إذ مر معنا أن ذلك حرام وأن المالكية على المشهور من مذهبهم لم يخالفوا بقية المذاهب الثلاثة. فمن صلى مكشوف العورة المغلظة عند المالكية بطلت صلاته وعليه إعادتها في الوقت أو بعد الوقت (أي سواء بقي شيء من وقت الصلاة أو انتهى)، ومن صلى مكشوف العورة المخففة عندهم لم تبطل صلاته ولكن يستحب له إعادة الصلاة ما دام وقتها لم يفت، وأما من صلى مكشوف الفخذين فلا يعيد الصلاة
لا بعد وقتها ولا أثناءه. وبهذا التلخيص نستغني عن نقل العبارات بحروفها من كتب المالكية، ولكن نشير إلى مظانها لمن يريد الرجوع إليها: حاشية الصفتي على شرح العشماوية (ص93)، حاشية العدوي على كتاب الإكليل شرح مختصر خليل (1/41). وغيرهما كثير.
وأختم الكلام بما علقه فضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز- أحد كبار الآخذين عن العلامة الشيخ محمد الحامد رحمه الله- على الأحاديث الآمرة بتغطية الفخذ، وذلك في تعليقة طويلة ضمن كتابه (أنس بن مالك الخادم الأمين والمحب العظيم) (ص100) حيث قال: ولذلك ذهب الأئمة الأربعة إلى تحريم كشف الفخذ، وما يروى عن الإمام مالك من جواز كشف الفخذ غير صحيح، قال العلامة المالكي الشيخ محمد يوسف التونسي الشهير بالكافي: إن المفتى به في الفخذ أنه عورة، وأن كشفه حرام في غير الخلوة، وأن النظر إليه حرام، وأن لمسه ولو من فوق حائل حرام، فمن أفتى بجواز كشفه يكون آثماً حيث أفتى بجواز محرم في مذهب إمام دار الهجرة. انتهى من كتابه "الدرة الثمينة في الكلام على حكم العورة على مذهب مالك بن أنس عالم المدينة".
وقد اقتنيت هذا الكتاب بعد طلب حثيث له بفضل الله، هذا وقد أطلعت أحد المشتغلين في الفقه المالكي من المعاصرين وهو الدكتور محمد بو الأجفان التونسي أثناء زيارته لبيروت قبل شهور على ما نقلته وفهمته من كتب المالكية فوافقني تماماً بفضل الله تعالى.
وبعد فإننا بما تقدم ندرك الزغل وعدم الأمانة في العلم في ترويج كشف الرجال لأفخاذهم فيما صرح به أحدهم في بيانه بقوله:(فظهر ظهوراً جلياً أن الفخذ ليس عورة في قول للإمام مالك بن أنس وأحمد بن حنبل المعروف بالزهد والورع وعند التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح وابن جرير الطبري). فقد عرفنا أنه وإن روي عن الإمامين الجليلين مالك وأحمد أن الفخذ غير عورة إلا أن الراجح عنهما والمعتمد للفتوى في مذهبيهما عكس ذلك، فكيف يستدل بغير الراجح ويترك الراجح المعتمد فضلاً عما أفادته الأحاديث الصحيحة الصريحة. وأما عطاء بن أبي رباح فقد قال الإمام النووي في "المجموع" (3/169):(وقال أبو حنيفة عورة الرجل من ركبته إلى سرته وليست السرة عورة، وبه قال عطاء)، مما يعني أن التابعي الجليل عطاء ذهب مذهب أبي حنيفة، نعم حكى صاحب التتمة عنه خلاف ذلك فأقل ما يقال:إن النقل عنه مختلف فيه. وأما ابن جرير فقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/481): وفي ثبوت ذلك عنه نظر، فقد ذكر المسألة في تهذيبه ورد على من زعم أن الفخذ ليس بعورة. انتهى كلامه.
اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد العرفان، ومن الضلالة بعد الهداية، ونسألك أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا. اللهم آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن