وقفــات روحانيــة بين الحج والرحلة الأبدية

لقد جعل الله تعالى فريضة الحج مرّة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلًا، وهذا أول وجه من وجوه اللقاء المشترك بين رحلة الحج ورحلة الموت المنتظر لكلّ مخلوق على هذه الأرض من بني آدم. ذلك أنّ الرحلة للحج هي في حقيقتها واحدة، وإن تكرّرت مناسكها وما يترتّب على من يقصد بيت الله الحرام فعله.
ومن أوجه اللقاء المشترك بين الرحلتين ما ينبغي للحاج فعله من أداء الأمانات لأهلها قبل حجِّه. فهو بذلك يقصد أول ما يقصد أصحاب الحقوق عليه حتى يبرأ ذمَّته، وهو لا يدري هل يعود من رحلة الحج أم لا. وتراه يوصي أهله وصيّة المودِّع بكلّ ما له وما عليه، وهو ما يشبه من بلغ من العمر آخره وضرب الشيب والهرم فيه أطنابه، وأصبح يقارب الموت بين ليله ونهاره، فيسرع إلى أهله وأولاده، يوصيهم بوصية المودع، ويطلب مِمَّن ظلمه أو اعتدى عليه أن يسامحه ويعفوَ عنه.
ولو انتقلنا إلى رحلة الحج، فهي أول ما يترك فيها القاصد أهله وماله إلّا حاجته الضرورية منه. يترك بيته والناس الذين بجواره، ويسافر ليخلع ثيابه التي كانت رمزًا للعيش والحياة الصاخبة، ويرتدي ثياب الإحرام التي تشبه أكثر ما تشبه الكفن الذي يرتديه الميت عند مفارقته الحياة. فلا هو، أي الحاج، بحاجة لا لكفن إن هو مات في حجه، ولا لعطر ولا لغسل، بل جلَّ الأمر أن يُصلَّى عليه ويُوارى الثرى.
هو في رحلة تشبه رحلة الموت بلا إعلان، وليس في هذا انتقاص ولا مس بمكانة الحج، الفريضة الخامسة في الإسلام. بل على العكس من ذلك، هي تجعل المسلم في حالة اختيار بعد الاختبار، بعمر قضاه يطوف البلدان والأمصار بقصد التجارة وجمع المال، ثم يعود لبلده يبني ويمني النفس بالأماني في عمر مديد وعيش رغيد بلا حدود ولا ترشيد. وهو في رحلة الحج إلى بيت الله الحرام يخالف هذا الذي كان عليه. فهو سيسعى ويطوف ويلبّي ويحلق وينحر ويرجم الشيطان الرجيم، ويؤدّي المناسك، وهو جدّ سعيد بتجارته مع الله، لا مع أيِّ بشر مثله يربح منه أو يخسر، ولكنه مع الله يرجو تجارة لن تبور.
أجل، إنها رحلة تذكر الحاج بأجله المحتوم، لأن فيها السفر الطويل وترك الأهل والمال والولد. وفي الحج، يشترك الحجيج كما يشارك أهل القبور في وحدة المنزلة في اللباس والدثور، فلا تفريق بين حاج غني ولا وزير ولا أمير. كلهم على صعيد واحد وبلباس واحد ونداء واحد. وكذلك من فارقوا هذه الدنيا وتركوا ما فيها وراء ظهورهم، أليسوا متوحدين في أكفانهم وفي قبورهم حُفاة عُراة إلّا من أكفانهم؟
والحجّ يجعل أهله يتحضّرون للسفر الطويل البعيد بلا عودة منه عندما يخرجون إليه، وهم لا يعلمون بما ينتظرهم، وهل إلى عودتهم إلى أهلهم من سبيل. أجل، إنّ الحجّ انقطاع مؤقت للعبد عن كلّ من كان معهم وفي جوارهم، أهلًا كانوا أم أحبابًا، ولكن عليه أن يعلم أنّ هذا ما هو إلّا تعليم وتحضير للسفر الطويل الذي ينتظر الناس جميعًا حيث أنهم سيخرجون بغير اختيارهم بعد أن كان حجهم باختيارهم، وسوف يقفون الموقف الذي سيُلّبون فيه نداء السماء وهم في الأرض، بعضهم مع بعض سواء بسواء. فأين التفريق بينهم وبين أهل الآخرة الذين تواروا في الأرض وأصبحوا تحتها؟ لا ينفعهم مال جمعوه ولا قصر شيَّدوه ولا ولد ربّوه إلّا ما كان فيه ذكر لله تركوه.
إنّ مشهد الطواف والتلبية يشبه مشهد الملائكة في السماء الذين يطوفون حول البيت المعمور ويذكرون الله لا يفترون. إنّها مشاهد تجعل الحجيج أقرب إلى التفكّر بما ينتظرهم وبما في الأرض جميعًا من قدر ومصير وما ينبغي جمعه وحشده ليوم النفير. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
وقفــات روحانيــة بين الحج والرحلة الأبدية
مراهق أم مُرهَق؟ فك شيفرة مرحلة صعبة
عام البكاء! ثمّ النّصر...
مؤشرات تَعافي الاقتصادَيْن السّوري واللبناني
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السادس