د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السادس

ثبت أن للعقل في القرآن منزلةً عاليةً وأهميةً كبرى لما يطلع به من دور عظيم في أداء الإنسان مهامه الاستخلافية في الأرض سواء منها الروحية أو المادية، إلّا أنّ الله تعالى جعل لمنزلته هذه، ولعُلُوِّ شأنه ودوره حدودًا ومقدارًا، وقد قال عز وجل: ﴿قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا﴾ (الطلاق:٣)؛ حيث التقرير العام والجازم أنّ كلَّ موجود ومخلوق وما كوَّنه سبحانه وسخرَّه للإنسان يخضع لما يمكن أن نسميه بـ'قانون القَدْر'. وعبارة القَدْر في الآية دقيقة وموحية؛ يقول ابن عاشور: "والقَدْرُ: مصدر (قَدَرَهُ) المُتَعَدّي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وضَعَ فيه بمقدار كمية ذاتية أو معنوية تجعل على حسب ما يتحمَّله المفعول. فَقَدْرُ كلِّ مفعول لفعلٍ قَدْرُ ما تتحمَّله طاقته واستطاعته من أعمال، أو تتحمَّله مساحته من أشياء، أو يتحمَّله وعيه لما يكدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام. ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ (البقرة:٢٨٦). وقوله هنا: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا مَا آتَاهَا﴾ (الطلاق:٧)، ومن جزئيات معنى القَدْر ما يُسمّى التقدير: مصدر (قَدَّرَ) المضاعف إذا جعل شيئًا أو أشياءَ على مقدار معين مناسب لما جعل لأجله كقوله تعالى: ﴿وقَدِّرْ في السَّرْدِ﴾ (سبإ:١١)" [التحرير والتنوير، ٢٨/٣١٥].
فالعقل باعتباره ممّا خلقه الله تعالى وجعله في الإنسان ملكةً عظيمةً من ملكاته، وقدرة مبهرة من قدراته التي تعينه على الوفاء برسالته، ينطبق عليه 'قانون القَدْر' هذا؛ "أي تقديرًا لا يتعدّاه في مقداره وزمانه ومكانه وجميع عوارضه وأحواله وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعدّاه" [البقاعي، نظم الدرر،٢٠/١٥٣]. فمهما علا شأنه، ومهما عَظُم موقفه وسمت مكانته، فإن له حدودًا لا يتعدّاها مهما سعى في تجاوزها، ومجالًا لحركته لا مفرّ له منه، وهو كلُّ ما يقع تحت إدراكه المتمثِّل في عالم الشهادة والمادة، وذلك باستعمال آلاته العلمية وأدواته المعرفية التي عيَّنها سبحانه بقوله الجامع: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ (النحل:٧٨)؛ إذ "خصَّ هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها، ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علمٌ إلّا من أحد هذه الأبواب الثلاثة" [السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص٥١٦-٥١٧]، وهي السمع والبصر اللذان هما أعظم آلات الإدراك، ثم العقل الذي هو مقرُّ الإدراك كله، الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها. [ابن عاشور، التحرير والتنوير، ١٤/٢٣٢-٢٣٣].
ولعلّ الحكمة من جعل الطاقة العقلية محدودةً بهذه الحدود أن يوجِّه الإنسان طاقاته وملكاته وقدراته في اتجاه عمارة الأرض وفق هدي الله، وذلك بإعمالها في استكشاف السُنَن والقوانين الحاكمة للكون المسخَّر، الذي هو مجال اشتغال العقل وحركته ومنطلق إبداعه، وإلى هذا يتوجَّه معنى قوله تعالى عن علّة جعل تلك الآلات: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾؛ أي لكي تُصْرَف كلّ آلة فيما خلقت له ووجدت لأجله، حتى يحقِّق الإنسان شكر خالقه وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقّي إلى ما يسعده معاشًا ومعادًا. [يراجع الشوكاني، فتح القدير، ص٧٩٥، والكشاف، ص ٥٨٠].
وعليه، فإنه لا قدرة للعقل أن يبحث في ما لا طاقة له إلى إدراكه من الأمور التي لا تقع تحت حسِّه ونظره، أي أمور الغيب، التي يستمدُّها من السمعيات، المنحصر مصدر معرفته بها في الوحي والنقل. لذا "لا داعي لأن ينفق الإنسان النسبي المحدودُ أيَّ شيء من عمره القصير وجهده العقلي، بعد ثبوت الدليل السمعي به لديه وإيمانه به، إلّا في تلقّي تلك المعلومات كاملةً من الدليل السمعي. أمّا ما عدا ذلك من أنواع المعرفة فكلُّها ممكنة ومتاحة ولدى الإنسان الاستعداد والآلات القادرة على الوصول إليها بالتعلُّم ومراكمة ذلك بالأقلام" [العلواني، التوحيد والتزكية والعمران، ص٦٧].
ومن أبرز الآيات التي تثبت 'قانون القدر' حاكمًا للطاقة العقلية الإنسانية قوله تعالى: ﴿وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءࣲ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ﴾ (البقرة:٢٥٥)، "أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلّا بما أعلمه الله عزَّ وجلَّ وأطلعه عليه" [تفسير ابن كثير،١/٦٧٩-٦٨٠]. واعتبر الرازي قوله تعالى: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ أنه "إشارة إلى كون غيره غيرَ عالم بجميع المعلومات، ثم إنه لمّا بيَّن كمالَ ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض، بيَّن أنّ مُلْكَه فيما وراء السماوات والأرض أعظمُ وأجلُّ، وأن ذلك ممّا لا تصل إليه أوهام المتوهمين، وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها تخيلات المتخيِّلين"[تفسير الرازي، ٧/٦].
ومن المسائل الغيبية التي يوضح بها القرآن مقدار العقل وحدود قدرته في إدراكها قضية 'الروح'، إذ يقول سبحانه: ﴿وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ [الإسراء:٨٥]؛ فـ'الروح' من المحجوبات عن إدراك العقل، لأنها "من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر" [الالوسي، روح المعاني، ص ١٥/١٥٣]، والحكمة في ذلك "تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز، ولذا ردَّ ما قيل في حده قديمًا وحديثًا… ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله: ﴿وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾… والمعنى أن علمكم الذي علمكم الله ليس إلّا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه وإن أوتيتم حظًا من العلم وافرًا" [القنوجي، فتح البيان، ٧/٤٤٨]. من هنا يصدق ما قاله السعدي:"فليس في السؤال عنها كبير فائدة" [تيسير الكريم الرحمن، ص ٥٤١]. ويُستوحى من هذا التنبيه إلى وجوب التزام تحرك العقل فيما يستطيعه، وإلى تجنب البحث فيما ليس من مقدوره إدراكه.
ثم إنَّ العقل حين يتبع الطريقة الصحيحة في النظر والبحث، فإنه -كما ذكر النجار- "يصل ضرورة إلى الحق، الذي يكون حقًّا نسبيًّا ومحدودًا، سواء في الكشف عمّا هو كائن، أو في تقدير ما ينبغي أن يكون؛ وذلك لأن العقل في سبيل الوصول إلى الحق يتحرّك في معطيات الحس، وإبداعه إنما هو في الانطلاق منها لإدراك ما وراءها من المعقول المجرَّد، ولولا معطيات الحس لما كانت حركة عقلية كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:١٧١). ومن البَيِّن أن معطيات الحس محدودة بحدود مادتها، وهي ظرف الزمان وظرف المكان، فالحواس تجمع محصولها منهما لتقدِّمه إلى العقل… وبناء على ذلك فإن المعرفة العقلية في مجال الأشياء لا يتعدّى نطاقها حدود الظواهر والصفات والآثار إلى حقيقة الماهيّات والأكناه" [خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص٦٢].
فالحاصل ممّا سبق إذًا أنّ العقل البشري محدودة طاقته واستطاعته، مقيَّدة حركته وإبداعه في عالم المادة والشهادة، محكومٌ بظروفه، حتى إذا استطاع أن يدرك ما وراء المادة من الحقائق المجرَّدة، وأصاب الحقيقة في تقدير السلوك الإنساني، فإنه ذلك يأتي نسبيًّا لأنّه محكومٌ بظروفه المادية التي يتحرّك في مجالها ويتَّخذ منها معطيات الإبداع .[النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص٦٢].
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السادس
وجوه النفاق.. في الدين والحياة
تأثير التنمُّر على نفسيّة الطفل
أشرَق الأمل... وعاد الحقُّ إلى أهله
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثالث