الحج.. هذه العبادة الفريدة

ما أعظم الدروس والعبر التي تنسكب في قلب المؤمن وهو يلبّي دعوة الله له لزيارة بيته، فمنذ أن أمر الله خليله إبراهيم: {وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق}... ما تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت العتيق ترشُف النور وتغسل الذنوب وتطهّر القلوب... تأتي من كل الآفاق، يستوي بينها الأبيض والأسود، والغني والفقير، وصاحب الجاه والمغمور، والحاكم والمحكوم، يلبسون لباسًا يُشعرهم بالمساواة كما يُشعرهم بالوحدة، فهم جميعًا عباد الله، ضيوف عليه، يتضرّعون إليه:
يا مُجيب الدعواتِ جئت أُزجي صلواتي
وتُـنـــاديــــــــكَ صـبــــابـاتي بكـــلّ اللـهــجـــــــاتِ
يستبشرون بقول نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم: "الحُجّاج والعُمّار وفد الله. إن دعَوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". [رواه ابن ماجه والطبراني]، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: "وفدُ الله عز وجل ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر". [حديث صحيح رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة". [رواه البخاري ومسلم].
يستبشرون بذلك ويُحسّون أن كل ما حولهم يتجاوب معهم:
ولمّـــــــــا نزلنــــا بأرض الهـــــــــــدى وردّ الســــــــلامَ حــــمـامُ الحــَـرَمْ
وطُفنا مع الشوق حول الستور ورُحــــــــنـــا بأرواحــنــا نــســــــــتــلـمْ
دعَـــــــــونا، وماذا تقــول الشــــــفاه إذا الروح غنّت بسحر النَّغَمْ
يستشعرون وحدتهم. فهذا القادم من أقصى الشرق، والقادم من أقصى الغرب، والقادم من الشمال أو الجنوب... كلهم إخوة يوجّهون قلوبهم إلى ربٍّ واحد ينادونه: "لبّيك اللهمّ لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك"، ويطوفون حول بيته، ويجولون فوق الأرض التي احتضنت دعوة الإسلام، ومنها انطلقت جيوش الإيمان تفتح البلدان وتحطّم قوى الكفر والطغيان... ولئن جاءت حقبة من الزمان صُنعت فيها الحدود والحواجز بين بلاد المسلمين، فإن القلوب ما تزال تخفق بالتوحيد، وإن الألسنة ما تزال تلهج بآيات القرآن لتؤكد أن المسلمين أمة واحدة لا تفرّقها تلك الحدود. {إنّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون}. [سورة الأنبياء: 92].
ولئن باعدت بين القلوب – في خضمّ الحياة- مشاحنات وخصومات، فإن الحج، بما فيه من إحرام وطواف وسعي وتلبية... جدير بأن يوقظ هذه القلوب ويجمعها ويقول لها:
إن ما بين المسلم والمسلم من أسباب القُرب والوحدة جدير بأن يتسامى فوق أسباب الفُرقة والخصومة، فليدعُ ربّه: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم}. [سورة الحشر: 10].
وأفعال الحج تعمّق في المسلم معاني العبودية والخضوع لله، والتحرر من الهوى والعصبية والإقليمية، وإعلان تفرّد الله تعالى بالربوبيّة، فلا خالق ولا رازق، ولا محيي ولا مميت، ولا نافع ولا ضارّ... إلا الله وحده. وإعلان تفرّده بالألوهية، فهو وحده سبحانه المستحق للحب المطلق، والرهبة المطلقة، والحاكمية المطلقة.
ويعود المسلم من حجّه وقد رجع مطهّرًا من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، فليراجع نفسه وليحاسبها حتى لا ترتكس بعد أن تسامت:
كم صـــــــــــــلاةٍ صــــــــلّيتُ لم يتجـاوزْ قُــــــدس آياتها حـــدودَ لســــاني
كم صيـــــــــــام أجَــعـــتُ بطني فـيــــــه ونســــيتُ الجيــــاع من إخواني
كم رجمتُ الشيطانَ، والقلبُ مني مُثخنٌ في حبائــــل الشـــــــيطانِ
ربّ عــفـــــــــوًا إذا عــــشــــــــــــتُ ديــني ألفاظًا عجافًا ولم أعِشْه معاني
اللهم تقبّل من الحجّاج حجّهم ودعاءهم وتلبيتهم، وألهمهم الثبات على ما دَعَوك ولَبَّوْك، ويسّر الحجّ لمن لم يستطع إليه سبيلًا، وأعطه مثل ما أعطيت للحجاج، واجمع قلوب عبادك على ما تحب وترضى.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الحج.. هذه العبادة الفريدة
وقفــات روحانيــة بين الحج والرحلة الأبدية
مراهق أم مُرهَق؟ فك شيفرة مرحلة صعبة
عام البكاء! ثمّ النّصر...
مؤشرات تَعافي الاقتصادَيْن السّوري واللبناني