الصدقة الخفية
يقف على أبواب المساجد مساكينُ يبيعون الخضار والفواكه، ويجول على البحر وعند الإشارات الضوئية صبيةٌ صغار ونساء يبِعْن العطور والألعاب، وتوجد في الأحياء السكنية بقالة متواضعة، يقوم عليها شيخ كبير؛ لتخدم السكان، وتوفر لهم حاجياتهم الضرورية، ومنها ما يُوصِّل لهم المواد الأساسية مجانًا إلى أبواب بيوتهم، وقريبًا من الحي تفتح المحلات الصغيرة لتبيع القرطاسية، والأدوات المنزلية والكهربائية.
فكيف يقابِلُ أكثر الناس هذه الخدمات؟
إنهم يَزْهدون بها ويهملونها، ويذهبون إلى المحالِّ الكبيرة لشراء حاجياتهم دفعة واحدة وبسعر أقل - حسبما يظنون - وهم يُفضِّلون الشراء من المراكز الضخمة، ولو مَشَوْا أميالاً أكثر، ولو دفعوا مالاً أكبر لقاءَ بعض السلع، فكل محل يرخص أشياء ليأتي بالزبائن، ويرفع بالمقابل سعر أشياء أخرى؛ ليضمن الربح الوفير واستمرار التجارة، وهم يتسوقون من البضائع الباهظة الثمن ولا يبالون، وعندما يَصِلون إلى صناديق الدفع يدفعون بكل هدوء ويمشون دون مناقشة أو اعتراض على غلائها الفاحش، أمَّا إن صادف أن أَعْجَبَ أولئك الناس شيءٌ من بضاعة الباعة المساكين ساوموهم على بضائعهم، وجادلوهم على الليرة والريال وأجزاء الدينار، وأظهروا الزهد ليرَخِّص الثمن، ثم لا يشترون منهم إلا أشياءَ قليلة، وبالأسعار التي يحددونها هم، وإذا احتاجوا شيئًا من بقالة الحي اشتروا بالآجل، وتأخروا بالدفع، وماطلوا حتى تتجمع عليهم المبالغ الكبيرة، وينعكس ذلك على صاحب البقالة، فيئِنُّ من ثِقَل الديون، وقلة السيولة ويعجز عن تزويد بقالته بالمواد.
هذا ما يفعله بعض الناس، ولا يفكرون أن أولئك الباعة يشترون كمية قليلة من البضاعة من شدة عَوَزِهم، فتكون أسعارها غالية عليهم، فكيف سيبيعوننا إياها بسعر كسعر المحالِّ الكبيرة؟ ثم هم يأتون بالبضاعة إلى أيدي الناس، ويقدمونها لهم وهم جالسون مستريحون، أفلا يستحقون أن نُكْرِمهم بريال أو ريالين؟ وهؤلاء الباعة فقراء محتاجون أرباب عائلات، فَلِمَ نحرجهم، ونقلل موردهم بإرخاص السعر أو تأخير الدفع؟ ومنهم من جار عليه الزمان وقست عليه الدنيا، فما وجد شيئًا يعمله إلا التجارة بهذه الطريقة البسيطة وبالبضاعة القليلة، فَلِمَ لا نشجعه على العمل المباح، والربح الحلال بدل أن يقعد عاطلاً، أو يصبح سارقًا؟
إن هؤلاء لا يَسْتَجْدون ولا يَشْحَذُون، إنهم يَعِفُّون عن الطلب ويتكسبون، ويبحثون عن اللقمة الحلال، ويبذلون في سبيلها كلَّ جُهدهم وطاقتهم، فلم لا نساعدهم على الحصول عليها طيبةً شهيةً، بأن نشتري منهم بدل الشراء من غيرهم من الأغنياء أصحاب التجارات الكبيرة؟ وبأن نقبل بالأسعار التي حددوها ما دامت معقولة؟ ولنعتبر الفارق البسيط في الأسعار صدقةً منا عليهم، نخرجها عن طيب نفس فنؤجر عليها، ونَسُرُّ بها أخًا مسلمًا (هو ذلك البائع)، ونوفر له ولعائلته دخلاً يعيش منه، ونشجعه على العمل، ونربح تجارته، ونحميه من الخسارة والإفلاس، إنها صدقة خفية نوصلها إلى العامل بلا مَنٍّ ولا أذى، ونأخذ نحن مقابلها ما نحتاجه من المواد التي يقدمها، مع ما وعدنا الله به من الثواب الجزيل.
لقد صارت التجارة دُولَةً بين كبار الأغنياء، وأتت المحالُّ الكبيرة على الصغيرة، وتحكمت بالأسعار لقدرتها على الشراء بكميات كبيرة، ولِتَمَكُّنها من الدفع الفوري، وبدأت التجارة الصغيرة في التقلص، وقد تكون في طريقها إلى الانقراض، وإن تقلصت فنحن أول الخاسرين؛ لأنهم سيتحكمون بالأسعار، ولن تبقى بضائعهم رخيصة، ولأننا سنُضْطر لقصد المحال الكبيرة متى احتجنا كيس خبز، أو علبة حليب، وهذا أمر صعب، في حين توفر لنا البقالات الصغيرة هذه الخدمات باستمرار، وتجعلها في متناول أيدينا على مدار اليوم، ولو تعامَلْنا معها وأبقيناها عامرة كنا نحن الرابحين، فاشتروا من أولئك البسطاء، وأكثِروا، تكسَبوا في الدنيا والآخرة.
وأعترف لكم أخيرًا بأن فكرة هذه المقالة ليست مني، وإنما هي نصيحة سمعْتُها من بعض الناس من وقت قريب، فخِفْت أن تضيع فلا يسمعها أحد، أو يسمعها قليل من الناس، فوضعتها هنا ليطَّلِع عليها القراء، ويعملوا بها، ولعلنا نتشارك جميعًا في الأجر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن