من تعاليم الهجرة

ضاقتْ الدنيا على صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما رحُبت، فكان استشهاد سميّة ذكرى مؤلمةً لا تفارق ذهنَ عمار، وكان أثرُ الصخرة المحمّاة بحرِّ الشَّمس لا يزال جاثمًا على صدر بلال، وكان خبَّاب يلامس ظهره المحروق، ولا يغيب عنه أذى المشركين وهم يعذبونه، فيلوون عنقه، ويجذبون شعرَه، ويسحبونه في النار. وما زالت ذكريات حصار المسلمين في شِعْب بني هاشم لثلاث سنين مضت حديثَ الغادي والبادي.
ولم يسلم من هذا الإيذاء رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، بل كان أكثرهم ابتلاءً، فلا تُنسى أفعال ابن أبي معيط، وهو يباغت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم حال صلاته فيضع ثوبَه حول عنقه ويخنقه خنقًا شديدًا، بل قد عمَد مرةً إلى وضع كرش بعير على رأسه_ بأبي وأمي أنت يا رسول الله_ وهو ساجد.. ولم يزل مشهد الدماء النازفة من قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عائد مخيَّبًا من الطائف يترك نَدَبًا في قلب كلِّ مَن يتذكرها..
هذا طرفٌ من الأحداث التي اضطرت رسولَ الله وصحابته إلى الهجرة، فتركوا الأرضَ التي عاشوا فيها مهدَ طفولتهم ومرتع صباهم، وهجروا بيوتهم وأموالهم فرارًّا بدينهم، حتى إنَّ هذه المشاعر رافقتهم إلى أسوار مكة، فها هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاطبها بمرارة قائلًا: "واللهِ إنك لَخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضٍ إليَّ، ولولا أنَّ أهلكِ أخرجوني منك ما خرجت منك". رواه أحمد في المسند وغيره.
ثم إنَّ الناظر إلى المسلمين وهم يَهجُرون وطنهم بعدما لاقَوْا فيه ألوان العذاب، من غير أن يصرفَهم ذلك عن التمسّك بالدين الصحيح، والإيمان الذي غمرَ كيانهم، يظنّ أنهم أخطأوا بتحدّيهم لقريش وفرّطوا بالوطن، في حين أنهم رجعوا بعد عدة سنوات إليه فاتحين، فكانت العبرةُ في ذلك أنّ التمسك بالعقيدة والدين الحق هو بداية الطريق وأول خُطى النصر.
وفي هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه رضي الله عنه ما يثير الدهشة، فلقد خرجا ضمن خطةٍ محكمة، يحتاطان من كل شيء، يكتمان أمرَ الهجرة كيلا يصل مسامعَ قريش، يستأجران رجلًا عالمًا بالطرق ليدلَّهما على الطريق، يُكلَّفُ عبدالله بن أبي بكر باستطلاع أخبار قريش ومعرفة ما تحيكه للإمساك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويُكلَّف عامر بن فهيرة بأن يرعى غنم أبي بكر نهارًا ثم يسير بها مساءً ليحلبَ لهما، وأن يتبعَ بالغَنَم مسار عبدالله بن أبي بكر بعد عودته من غار ثور إلى مكَّة، فيعفِّي على ما تركتْه أقدامه من آثار في رمال الصَّحراء. وكانت أسماءُ على صغر سنّها آنذاك تحمل الماء والزَّاد لهما ثلاث ليال مُتعاقبة، تقتحم وحشة الطريق في ظلمة الليل لتؤديَ مهمتها. ويكلَّف عليٌّ رضي الله عنه بأن ينام في فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الهجرة، ويشاغل قريشًا حتى الفجر، كلّ ذلك يدل على أخذ الحيطة واتخاذ الأسباب، ولو شاء ربّه لأخرجه نهارًا أمام أعين قريش لا تصيبه شوكة، ليُعلَمُ بتلك الإجراءات أنّ كلَّ آمال النفس مهما كان الإيمان فيها عظيمًا إنّما هي أوهامٌ عابرة مالم تخضع لقانون التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب.
ثم لو أننا نظرنا في هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منظور آخرَ لرأينا مِن حبِّ صحابته له عجبًا، فقد نقلت لنا عدسةُ التاريخ مشاهدَ عدّة، منها ما روت عائشةُ رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: "إنَّه قد أُذن لي في الخروج والهجرة". فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصُّحبة يا رسول الله! قال: "الصُّحبة". قالت: فواللهِ ما شعرت قَطُّ قبل ذلك اليوم: أنَّ أحدًا يبكي من الفرح، حتَّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، وتُرجمت هذه المشاعر عندما جنّد أهل بيته وخادمه وأمواله في خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهذه الهجرة، وكان يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه، فكان يسبق رسول الله إلى الغار كي يكون فداءً له إن فجأهما عدوّ، أو وحش، أو نحوه.
وعلى الجانب الآخر، كان الأنصار يخرجون إلى ظاهر المدينة كل يوم ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت لفح الشمس، وعند وصوله جاشت عواطفهم وأنشدت ألسنتهم:
طلع البدرُ علينا.... من ثنيَّاتِ الوداعِ
وجب الشكرُ علينا ... ما دعا للهِ داعٍ
فعُلم أنَّ محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي زمامُ الاتّباع، ووقود التضحية في سبيل الله. بل هي شرط الإيمان فيما صح عنه صلّى الله عليه وسلّم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"
هذه بوارق ثلاثة لشمس الهجرة التي وإن غابت آخرَ النهار فلا تفتأ أن تعودَ في بداية ساعات الفجر لتشرقَ من جديد، بأنوارٍ كثيرة، يعيها المتأمل ويحسّ بها المتيقّظ.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
الكلمات الدالة : الهجرة النبوية تعاليم روحية دين الحق طريق النصر تضحية فداء الإسلام الاتباع التكريم الإيمان بالله
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
من تعاليم الهجرة
صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع
الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام
جَوَّاد يوم عرفة.. تأثّرًا يما يجري في غزة