أيَّ عاشوراءَ تريد؟

في العاشرِ من محرَّم سنة إحدى وستّينَ للهجرة حدث أمرٌ جَلَلٌ، لا زالت أصداؤه تتردَّد، وتبِعاته تنوء بأحمالها الأمَّة.
ذكرى إسلاميَّة مجيدة تمَّت سرقتها في غفلة من التاريخ، وتجييرُها إلى منحىً طائفيّ شقَّ الصفَّ ولا يزال!
قد اختصَّها معزُّ دولة البويهيِّين (الفُرس الزيديِّين) بيوم حزن عامٍّ وحِداد، وجعل المآتم والنياحة واللّطم سماتٍ بارزةً لتلك الطقوس!
هذا الفهم السّقيم الطائفيُّ تقبَّله - لبالغ الأسف - عامَّةُ أهل الفكر إلى يومنا هذا! والحقُّ الذي لا مَحيدَ عنه أنَّ هذه الذكرى ليست حكرًا على فئة بعينها. وليست مادَّةَ مزايدةٍ لأحد، بل هي ذكرى تفخر بها الأمَّة جمعاء، بل وربما هي مفخرة للإنسانيَّة بأسرها، ذكرى تؤسِّس لمنهج حقٍّ، وتوثِّق مسار كرامة، وتُرسي مفهوم حريَّة، ذكرى بدأت حركةً في تاريخ الإنسانيَّة برفض نبيِّ الله موسی _عليه السلام_ ظلمَ فرعون واستعبادَه بني إسرائيلَ، واستمرَّت مع إباء السيِّد السِّبط الحسين - رضي الله عنه - ظلمَ يزيد ومَن معه. ذكرى لم ولن تَحُطَّ رحالَها، ولن تنحصرَ بجيل إنسانيٍّ، بل هي مفهوم سامٍ ينبعث في كلِّ عصر؛ طالما صنعَ عبيدٌ طاغوتًا لهم، وطالما بغى باغٍ، وتجاوز ظالم، واستعلى مستعلٍ بغیر حقٍّ.
نعم، إنَّ الحسين - رضي الله عنه - ليس مختصُّا بأتباع بني بُوَيْه، إنَّه فخرٌ لأمَّة الإسلام قاطبة.
إنَّه - بأبي هو وأمّي - قدوةُ الثائرين الأحرار، ومقدَّمُ المنتصرين الأبرار؛ قد انتصر بشهادته لدين الإسلام، لا لبني هاشم على بني أميَّة! وانهزم يزيد ومَن معه مع أن دولتهم دامت بعد ذلك دهرًا. إنَّك ترى اليوم من يُرخص روحَه ثائرًا على ظلم، معاديًا لطاغوت باغٍ، لكنَّك لا ترى دولة ليزيد إلَّا إنْ جثمت علی صدور قوم حديدًا ونارًا ليقوم أناس ينتفضون عليها ويجتثُّون جذورها!
نعم، إنَّ الحسين - رضي الله عنه - لم يكن انتصاره انتصارًا آنيًّا ينقضي باستشهاده، فهو قد جمع في شخصه الكريم نسبًا أطهر، ومنهجًا أقوم، وقدوة أمثل، وإنَّ ذكرى عاشوراءَ تعيش مع أمَّة الإسلام على مدار العام يُحيونها برفض الطغيان، والأخذ على يد الظالم جيلًا بعد جيل، ولا يقصرونها على أيام عشر قد ملئت بلطم وشقِّ ثوبٍ ونَوْحٍ، وتَفرقةٍ مقيتة، وإثارةِ ضغينةٍ تعيش مع الأمَّة أعوامًا لا تنقضي تفُتُّ في عَضُدِها، وتخدم أعداءها، وتُشتِّتُ شملها.
عاشوراءُ بين حزن تسليم بقضاء الله، وحزن تشكٍّ وتسخُّط.
عاشوراءُ بين اتعاظ بأنَّ الطاغوت إذا صنعَتْه أهواء الناس واجهه أحرارهم، وحزنٍ لا همَّ لأهله إلَّا تحميل سائر الأمَّة وزرَ قتلِه ظلمًا، وتحريف منهجه الموحِّد الجامع تحت راية الحقِّ إلى خلاف مفرِّق ينتصر فيه الأعداء وحدهم.
عاشوراءُ بين حزنٍ مشوِّه لصورة الإسلام؛ يبني صنميَّة جوفاء، وثورةٍ تكسر تلك الصنميَّة، وتبني للإنسانيَّة كيانًا ثائرًا حرًّا كريمًا.
تلك عاشوراءُ التي سُرِقتْ ذكراها، وتلك أحزانها التي نراها.
فاختر لنفسك أيَّ عاشوراءَ تريد.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أيَّ عاشوراءَ تريد؟
العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة
وقفات وعبر من هجرة خير البشر
من تعاليم الهجرة
صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم