وقفات وعبر من هجرة خير البشر

لقد كانت الهجرة الكبرى من مكة إلى المدينة من أعظم المراحل الفاصلة والفاضلة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وفي سيرة رسول الأمة، عليه الصلاة والسلام. وكان اعتماد التقويم الهجري من قبل سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه بيانًا كافيًا وتذكيرًا وافيًا بمكانة هذا الحدث الجلل، الذي يستعاد التذكير به والاعتماد عليه على رأس كل سنة هجريّة. والسؤال هنا: ماذا كانت الهجرة بالنسبة لمسيرة الدعوة إلى الله أولًا، وماذا يعني التغيير والتبديل في تحريك الأمور وإحداث تحول في الهدف المنظور؟ وماذا كان أثر الصحبة الإيمانية في هذه الهجرة المباركة من مرافقة أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله في هجرته؟ وماذا يعني الانتقال لعالم جديد من الأرض والناس في تأسيس الوطن البديل تمهيدًا للعودة إلى الموطن الأصيل؟ وكيف يمكن الاستفادة منه في تغيير واقع الأمة المرير؟
إن الهجرة بحد ذاتها كانت الانتقال الكبير في مسيرة الدعوة إلى الله، لأنها قد اجتمع فيها النبي والولي معًا على رأس المهاجرين، قصدت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه. وقد كانت هذه الهجرة المباركة رافدًا كبيرًا في مسيرة الدعوة إلى الله، من خلال إثبات أولاً أن الأرض كلها لله، وأنه لا حدود ولا قيود يمكن أن توضع في طريق الداعية إذا ما أراد نشر الدين الحنيف وتثبيت أركانه في كل مكان، متجاوزًا الحدود الجغرافية كلها. وإن القرآن قد أشار إلى ذلك عندما ذكر الذين تثاقلوا عن ترك أرضهم وموطنهم وهم تحت وطأة الظلم والاستبداد والقهر والاستعباد، فكانت نتيجة تخاذلهم عن الخروج والانتقال في أرض الله والبحث عما هو أكثر أمنًا وأكثر راحة عن أعين وأيدي الأعداء. قال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أولم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.} (الآية 97، النساء). فإن القعود هنا وعدم الخروج وصاحب الأمر وما بيده من أمر الدعوة بخطر داهم وعدو قادم يعد من الظلم الغاشم.
وهذا ما يقودنا إلى الأمر الثاني، وهو ما يعنيه التغيير والتبديل في الأرض والناس من فتح أبواب جديدة للتغيير وإيجاد الهدف البديل. فإن الواقع يشهد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لاقى من أهل بلده مكة من الأذى والسفه والعنت، هو ومن آمن معه، ما لم يلقَه من غريب أو من ليس من لحمه ودمه في الديار منهم قريب.
وهو الذي قال ناظرًا إلى مكة: "والله إنكِ لأحب أرض الله إلى قلبي ولولا أن قومكِ أخرجوني منك ما خرجت". أجل، إنه الصراع بين مشاعر التعلق بالأرض والوطن، والذي قال فيه الشاعر قولًا يصعب وصفه:
"وطني لو شغلت بالخلد عنه، نازعتني إليه في الخلد نفسي، ولكن ما عند الله متقدم على الأهل والمال والولد."
كما هو متقدم على الوطن مهما بلغ تعلق القلوب به والحنين إليه، فالهجرة بحد ذاتها باب من أبواب الجهاد والامتحان الذي يختبر الله به من قد آثروا رضوان الله ورضاه على كل ما عداه.
ولو أتينا إلى الأمر الثالث، فإن الصحبة الإيمانية التي تجسدت بأبي بكر رضي الله عنه في الهجرة قد دمغت بالشهادة الربانية من دون أن تتقدم عليها أيّة تزكية بشرية. فقال الله تعالى: {ألا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فقد جمعت الآية بين النصرة أولاً من الله وحده، ومن ثم المواساة والمشاركة بين النبي وصاحبه الذي شارك خير خلق الله في أصعب المواقف قبل أن يشاركه في أفراحها ومسراتها. وهنا يكمن اختبار معدن الأخوة والصحبة على حقيقتها. وقد قال الشعبي: "لقد عاتب الله في هذه الآية أهل الأرض جميعًا إلا أبا بكر." رضي الله عنه، حيث إنه كان نعم الصاحب ونعم الرفيق، وكان يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في طريق الغار متفقدًا يمناه ويسراه خوفًا عليه من الرصد من الأعداء ومن الطلب. فهل من يكون كذلك يمكن أن يتسرب إلى النفس أدنى خاطر من الشك بصدق صحبته؟ ليأتيَ المشككون وأصحاب النظرات القاصرة ليتلاعبوا بمضمون الآيات التي جمعت بين الرسول وصاحبه في الغار.
فإذا كان قول الله حكاية عن رسوله مخاطبًا صاحبه في الغار "لا تحزن إن الله معنا" يتغير معناها ويتبدل فحواها بعدها بكلمات "فأنزل الله سكينته عليه" إن كلَّ صاحب نظر ثاقب يعلم أن السكينة هنا نزلت على الرسول وصاحبه معًا، وأقرب ما يمكن الاستدلال به مما يمكن أن يفهمه العوام قبل الخواص، إنه إذا كان جارك بخير فأنت بخير.
وأما الأمر الرابع فيقودنا إلى المقارنة بواقعنا المعاصر وتحديدًا في أرض الجهاد والرباط في فلسطين. فهل لأهل البلد أصحاب الحق في أرضهم وديارهم أن يهاجروا ويتركوا موطن الأهل والأجداد، والذي لا يمكن التفريط به ولو بملء الأرض ذهبًا، فقط بقصد الأمن والسلام، وليذهب الوطن بما فيه؟ فالبقاء للأرواح والنفوس متقدم على الأرض وترابها مهما كان. والجواب هنا لم يقله أهل فلسطين وغزة بالكلام والرد، بل جسدوه بالدم المهراق شلالًا لا ينضب دم أهله الطاهر، وسقوط أدوات الهدم والردم على ساكني الأرض أكوامًا من الحديد والنار.
إن الهجرة الحقيقة هنا لم يُعاد استنساخها من الهجرة النبوية المباركة إلّا بالأخذ بالحديث النبوي الشريف: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". إن حلم أعداء الله والدين وديْدنهم العظيم هو أن يهاجر أهل فلسطين، لتبقى الأرض بين أنياب اليهود الغاصبين. وبعدها لن يعد أحد منهم ليعرف إن كان له أرض بعد ذلك أو موضع قدم. ومن فرط بأرضه فرط بعرضه، وما كان لنا أبدًا أن نقارن الهجرة النبوية وأسبابها ولا بمقاصدها بأن يهاجر أصحاب الأرض في فلسطين ولو أُعطوا بدلها أحجارًا من المرجان والياقوت، وبنوا لهم قصورًا في أرض الملوك والملكوت.
ويبقى أن نستفيد من دروس الهجرة في الصبر والصحبة الطيبة والإيثار بما هو باقٍ على ما هو زائل.
والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
وقفات وعبر من هجرة خير البشر
من تعاليم الهجرة
صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع
الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام