الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام

إنّ من الإنصاف في ديننا البدء بالقول إنّ ما يجمع اليهود والنصارى في الأصل هو الشرك وما يترتب على هذا من كبد وحقد على كل من يقول لا إله إلا الله، فكيف يمكن الاتحاد تحت مسمى وحدة الأديان مع من يخالفوننا في أصل ديننا؟ ولو أتى من يقول: "ولنأخذ خير ما عند القوم وندع ما يضرنا فيه"، فنقول إن هذا ممكن في بعض الأمور المتعلقة بالوصايا والعبر وما يُستأنس فيه من القصص. والرسول عليه الصلاة والسلام "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ولكن هذا الحديث ليس بالمطلق، بل إن له حدوده وقيوده. وإذا كان في دين الإسلام نفسه ما ينبغي تقديم كلام الله حتى على الحديث الشريف في النقل، فمن باب أولى تقديم دين الإسلام بكليته على ما سواه.
وما جاء به خبر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما شاهد بين يدي عمر بعضًا من التورات، فقال له: "يا عمر، أتتهَوَّكون؟ لو جاء موسى وعيسى ما وسعهما إلّا اتباعي." وفي حديث نبوي آخر: "ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي، فهو من أهل النار" (رواه مسلم). وهو ما يعني أن دين الإسلام نسخ ما قبله قولًا وعملًا. وأما أن نأخذ أحسن ما في الإنجيل مثلًا وندع ما يعارض ديننا، فيحضرني في هذا المقام ما جاء عن الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله قوله: "ما عند النصارى باطلٌ أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ."
ولقد كان من سخريات هذا الزمان من انبرى ليعلمنا، وهو يعمل في مجال الفن والتمثيل الرديء، أن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل كان بالله وملائكته وكتبه ورسله} (البقرة: 285). فتقول هذه الدعية، وليست الداعية، إن الله قال في الآية: "وكتبه ورسله" ولم يقل "وكتابه ورسوله"، وهي تريد من هذا التعريض في القول أنه لا حرج على من آمن بكل رسول أرسله الله، سواء بسواء. وبذلك نصل إلى مرادهم الخبيث في وحدة الأديان واعتماد الناس ما تشاء منها بلا ضيق ولا حرج، طالما أنها من عند رب واحد.
وهذا بالتأكيد كلمة حق يراد بها باطل، فالإيمان بالكتب والرسل يراد به أن كل ما أنزله الله على أنبيائه ورسله هو من مصدر واحد في أصله. والإيمان به على هذا الأساس واجب. والله تعالى يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليهم أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، ولكن لمّا بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان واجبًا على كل مسلم أن يتوجَّه بكليَّته إلى اتباع ما جاء به الرسول الخاتم لأنه جمع ما جاء به الأنبياء جميعًا من كلمة التوحيد، ولكنه اختلف عما هم قد افترقوا عليه واختلفوا. والله تعالى قال عنهم ما قالوه: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [البقرة: 113]، وهي الجملة الوحيدة التي صدقوا فيها.
إن الإسلام دين يستوعب كل ما أنزله الله قبل إتمام رسالته ببعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ما سبقه من الأديان والمعتقدات السماوية قد نسخ كل ما فيها إما تبديلًا أو تعديلًا أو تسهيلًا. وإذا كان القرآن كتاب الله الخالد إلى يوم الدين قد أنزل الله فيه نسخًا لآيات منه، إما حكمًا أو تلاوة، فمن باب أولى أن ينسخ ما عداه من الشرائع السابقة. وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي القول إنه لا يمكن وحدة الأديان مع هيمنة الإسلام على كل ما سبقه من رسالات الأنبياء، فهي لا تنسجم مع تلك الرسالات لا نظريًا ولا عمليًا.
فاليهود من بني إسرائيل أحفاد يهود اليوم قد كذبوا رسولهم موسى عليه السلام، وحرّفوا ما أنزله الله عليه من التوراة حتى أصبح كتابًا دنيويًا خالصًا ليس فيه من شريعة موسى ما يذكر. ويحتوي من الضلالات جيشًا من الأساطير. ولم يكتفوا بهذا، بل إنهم اخترعوا التلمود وجعلوه متقدمًا حتى على توراتهم المحرفة. وفيه عصارة ما في أذهان القوم من تحريف وتخريف وتجديف. وأما النصارى، فقد سماهم الله بالضالين، وقد انقسم ضلالهم إلى نوعين: الأول هو التحريف في إنجيلهم الذي تحول إلى أناجيل، وقد أحرقت أيديهم أو أنكرت كل إنجيل يحوي ما يخالف نظرتهم إلى السيد المسيح عليه السلام وجوهر دعوته. قصدت بذلك تحديدًا إنجيل برنابا، والذي لا يعترف في طياته بالألوهية عيسى عليه السلام، بل هو بشر وعبد لله ليس إلا. فالقوم إذا في هذا الأمر لا يمكن أن تجد لهم وحدة الدين مع مين التوحيد دين الإسلام، لأنه يجمع بين نقيضين لا بد أن يغلب أحدهما الآخر. وفرق بين التوحد هنا والاندماج وبين الحوار والالتقاء على قواعد مشتركة لا تمسّ جوهر دين المسلم ولا صفاء دينه.
أما الأمر الثاني عندهم، فهو أنهم قد فصلوا الدين عن الدولة منذ عقود طويلة من السنين، وفي موطن النصرانية الأكبر في أوروبا، حيث تحولوا إلى العمل بالقاعدة التي تقول: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله." وبذلك لم يعد حتى ما يدعو للاعتراف بوجود دين نصراني خالص، بل إنهم قد استبدلوا سلطة الكنيسة بسلطة مدنية علمانية، لا يجد النصراني ما يقوده فيه إلى نصرانيته إلا بقداس يوم الأحد أو بالزفاف في ظلال الكنيسة وطقوسها.
وإن ممّا يترتّب على اعتقاد المسلم بما يسمّى وحدة الأديان والذوبان في عسلها المسموم أمور عدة لا بد من التنبيه لها والتحذير منها، ويمكن جمعها في أربعة أمور: الأول، الردّة التي تردي بصاحبها عن الإسلام لأنه ساوى في معتقده الوحدوي المزعوم هذا بين الكفر والإيمان، وبين الشرك والتوحيد. والأمر الثاني، أنه يضعف هيبة المسلم العزيز بدينه، ويصبح كأنه بيع رخيص في سوق للنخاسة، بما ينبغي رفعه والاعتزاز به، وليس جعله مطية لأهل الشرك أن يكون لهم على أمة التوحيد مطية. والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء: 141]. الأمر الثالث يترتب على هذه الدعوة المشبوهة فرصة لضعاف الدين والإيمان أن يستهينوا بالحرمات والحدود الشرعية، بما في ذلك أمر العقد الشرعي بين الزوجين، فينجم عن ذلك إمكان أن يتزوج النصراني بالمسلمة تحت ما يسمى الزواج المدني، ويؤدي ذلك إلى ما لا يحمد عقباه من الشرور والآثام. والأمر الرابع أن يستيقن المسلم المؤمن العارف بربِّه أن الإسلام يمكن أن تذوب فيه كل المعتقدات أرضية كانت أم سماوية، ذوبان الإفادة منها إذا ما اقترنت بالحكمة. والرسول عليه الصلاة والسلام قال:"الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها." (رواه الترمذي) ولكن لهذه الحكمة قيودها وحدودها بما لا يذوب فيه أي من لوازم الدين وأساسه المتين.
وينبغي لنا القول ختامًا ألّا يتأثر المسلم العارف بربه تحت مسميات الحب والألفة بين أهل الأديان، فما هي في حقيقتها إلّا دعوة ماسونية مبطَّنة، يراد بها أكثر ما يراد منها إذابة شخصية المسلم عبر جعل دينه مشرعًا أبوابه لكل دخيل من الأفكار والمعتقدات من دون ضابط. نسأل الله السلامة في الدنيا والدين. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام
جَوَّاد يوم عرفة.. تأثّرًا يما يجري في غزة
صراع الخير والشر أم صراع الشر والشر؟
خطر التفاهة على الأبناء
العيد.. عيديْن! رحلة في بلاد الشرق