العنصرية في الزواج في لبنان
جاء الإسلام بتعاليمَ مباركة تحافظ على كيان الأسرة الإنسانية عامة والأسرة المسلمة خاصة، منها مفهوم المساواة وعدم التفاضل بين المسلمين إلا على أساس العمل الصالح؛ لهذا قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى» أخرجه الإمام أحمد.
وانطلاقاً من هذا المفهوم ربّى صلى الله عليه وسلم صحابته على نبذ العنصرية والإعراض عنها في شتى مجالات التعامل، ولكن اليوم - للأسف - صارت العادات والتقاليد والنزعة العنصرية في سلوكيات بعض الأُسر المسلمة تلعب دورها في موضوع الزواج حتى وإن كانت غير جائزة شرعاً، رغم أن الإسلام يحثّ على زواج الأباعد ومن صاحب الخُلُق والدين.. فهل تُصَنّف هذه السلوكيات في الزواج في خانة العنصرية؟ أم هي مجرد عدم تكافؤ؟
بداية نتوقف عند بعض الإحصائيات التي قدّرت نسبة زواج اللبنانيين واللبنانيات من غير جنسياتهم:
كشفت نتائج المسح الميداني الذي أجرته الباحثة اللبنانية الدكتورة فهمية شرف الدين في إطار دراسة حول: «أوضاع النساء المتزوجات من أجانب» أنّ عدد عقود الزواج بين اللبنانيات وغير اللبنانيين 17 ألفاً و860 عقداً من إجمالي عدد الزيجات المسجلة في دوائر النفوس البالغة 300 ألف و415 زواجاً. وتبلغ نسبة المتزوجات من غير لبنانيين 8.2% من المسلمات، و2% من المسيحيات. وأن أكبر نسبة زواج بين لبنانيات وغير لبنانيين هي لدى الطائفة السنية، وتقدر بنسبة 11,1% من إجمالي السنّة. تليها الطائفة الشيعية بنسبة 6,9%.
أما عن جنسيات الأزواج بحسب طائفة الزوجة فهي كما يلي:
• السنيات تزوجن من فلسطينيين (38.9%) وسوريين (19.2%) ومصريين (7.9%).
• الشيعيات تزوجن من عراقيين (22.3%) وسوريين (20.3%) ومصريين (9.6%).
• المسيحيات تزوجن من سوريين (29.7%) وأميركيين (10%) وفرنسيين (9.4%) وفلسطينيين (8.2%) ومصريين (7.3%).
ففي إطار زواج اللبنانيين من سوريات يقول رئيس محكمة جبل لبنان القاضي «محمد هاني الجوزو» في مقابلة مع مراسلة وكالة الأناضول للأنباء: «إن هناك عدة عوامل لانتشار هذه الظاهرة، منها شعور الشاب اللبناني بأن الزواج من اللاجئات نوع من الشهامة وإتمام لواجب ديني، إلى جانب العامل الاقتصادي؛ إذ إن شروط ومتطلبات المرأة السورية قليلة جداً مقارنة باللبنانية».
وللتعرّف عن كثب على رأي بعض النساء والرجال فيما يتعلّق بالزواج من غير جنسياتهم التقيتُ بمجموعة ممّن أدلوا بتجاربهم المهمة في هذا المجال:
• ذُكاء (ليسانس رياضيات): فاجأتني حين أخبرتني أن أهلها لا يستقبلون من الخطّاب إلا من كان لبنانياً صرفاً. سألتها: حتى إن كان سورياً.. فلسطينياً؟! - كون الكثير منهم مقيمين في لبنان ويعتبرونه بلدهم ووطنهم - فأجابت: بالنسبة لي ليس عندي مانع ولكن أهلي يرفضون رفضاً قاطعاً، فهم يزعمون أنهم السبب في خراب البلد.
• أما ابنة جارنا الجامعية رانية (بيولوجي - الجامعة العربية) التي يشهد لها الجميع بحُسْن الخُلق فقصتها أعجب؛ فلقد عادت إلى منزل ذويها بعد 3 أشهر من زواجها وفي أحشائها جنين، والسبب على زعم والدها (أبو بلال - صاحب دكان سمانة) «لهجتها الفلسطينية»؛ فأهل زوجها - وهم من عائلة مرموقة في لبنان - لم يستطيعوا تقبّل لهجة كنّتهم، فاستسلم الزوج لرغبتهم بعدما عجز - حسب قوله - عن ترويض لسانها وتطويعه.. من جهته، دافع الزوج إبراهيم (يعمل في مجال التسويق) عن نفسه قائلاً: «بعد الزواج لم يحصل انسجام بيننا، هذا كل ما في الأمر».
• فتاة أخرى أنعم الله عليها بالدين والخلُق والجمال والعلم أُعجب بها شاب لبناني، ولكن أهله حينما علموا أنها من جنسية أخرى رفضوا رفضاً شديداً. وعندما سألنا هذا الخاطب محمود (متخرج من إحدى جامعات فرنسا) عن السبب قال بكل أسف: بالنسبة لي ليس عندي أية مشكلة ولكن أهلي الذين ما زالت العنصرية الجاهلية متأصلة في نفوسهم.. إذ إنهم يهتمون بالمظاهر ويحرصون على البريستيج الاجتماعي.. أعلم أنهم على خطأ، ولقد ناقشتهم مطولاً في هذه المسألة، ولكنهم يأبون. وأنا رغم قناعتي بخطئهم، إلا أنني أريد رضاهم لذا اقترنت بلبنانية حتى «ريّح راسي».
• وحتى نكون منصفين، الكثير من الأزواج لم تكن الجنسية هاجساً عندهم ومنهم سعاد (ربة منزل): حين تقدّم لي زوجي - وهو من الجنسية السورية - حاز على رضا أهلي فوراً لأخلاقه الحسنة.. فنحن وإن تناءت بنا الأقطار نبقى مسلمين، وهذه التصنيفات: فلسطيني، أردني، سوري، ولبناني هي وليدة اتفاقية سايكس بيكو..!!! تابعت سعاد قائلة: أتفهم رفض البعض لمن هم من الجنسية الأوروبية أو الآسيوية مثلاً لأن هناك اختلافاً في العادات والتقاليد واللغة، أما إخواننا الفلسطينيون والسوريون، وخصوصاً المقيمين هنا، فلهم نفس عاداتنا وتقاليدنا ولا نختلف عن بعضنا إلا بأمور بسيطة.
• علية (معلمة لغة عربية) دافعت عن موقفها الرافض للزواج من غير لبناني بالقول: رفضي لا يعني أنني عنصرية أو أنني أنتقص من شأن من هم من غير بلدي، ولكنكِ تعرفين صعوبة الاقتران بفلسطيني؛ فهو لا يستطيع أن يتملّك شقة، والأولاد لن يحصلوا على جنسيتي، بالإضافة إلى أن الفلسطيني محروم من وظائف ومهن كثيرة.. أما السوري فوضعه اليوم لا يخفى على أحد.. نظرت علية إلى عينيّ مباشرة وكأنها تريد أن تقنعني بوجهة نظرها وقالت: أنا لا أفكر بنفسي بل بأولادي مستقبلاً. سميّة (شقيقة علية محاسبة وحالياً ربة منزل) التي كانت تستمع إلى الحديث ردّت قائلة: لقد تزوجت من فلسطيني ولي منه 3 بنات، وبالنسبة لي لن أفكر بالمستقبل الآن.. الله أعلم إلامَ ستؤول الأوضاع في بلادنا عندما يكبر أولادي.. وقالت ضاحكة: ربما على أيامهم تقوم الخلافة بإذن الله ونصبح بلداً واحداً.. أمة واحدة.
• سمر (موظفة في إحدى المؤسسات الخيرية) علّقت على الموضوع قائلة: الحمد لله ليس عندي هذه النظرة العنصرية، فأنا لبنانية وزوجي فلسطيني، ونحن متفقان والحمد لله ولا أشعر بفروقات بيننا في أي شيء، ربما بسبب لهجته اللبنانية، ولكن ما يحزّ في نفسي وضعه المهني السيء.
• في حين كان لهنادي (ليسانس كيمياء وحالياً ربة منزل ومقيمة في السويد) رأي مخالف: «لقد تقدّم لي الكثير ولكن معظمهم إما سوريون أو فلسطينيون أو أردنيون ومن عائلات مرموقة وغنية جداً، فرفضتهم جميعاً، فأنا منذ كنت صغيرة السن وأنا أرغب بالزواج من لبناني وهذا ما حصل». وهنادي - بالمناسبة - فلسطينية من أم لبنانية، فسألناها عن سبب رغبتها تلك فردت والدتها: «أنا مَن كنت أشجع بناتي على ذلك لا سيما وأنهن سيحصلن على الجنسية، كما أنّ الفلسطينيين عندهم غلظة في التعامل مع نسائهم، أما اللبناني فمهذب أكثر ويغنّج زوجته أكثر، بالإضافة إلى وضع الفلسطيني المزري في لبنان.
نختم جولتنا هذه باستطلاع مهم، نشرته مؤسسة «فافو» النروجية، فقد أفاد أن 80% من شريحة تشمل 900 شخص يعارضون زواج فرد في العائلة من سوري أو سورية.
عنصرية أم تكافؤ؟
• سألنا المتخصصة الاجتماعية رقية بيتية عن رأيها في هذا الموضوع فأجابت: «تعتبر بعض العائلات اللبنانية أنّ السوري مستواه الاجتماعي أقل من اللبناني. بالإضافة إلى نقمة البعض على السوريين بسبب وجود النظام لسنوات عديدة في لبنان والتنكيل بهم. أما الفلسطيني فهناك نقمة من بعض اللبنانيين عليه منذ أيام «أبو عمار». وأضافت: «هناك قاعدة أساسية مهمة في الزواج هي التكافؤ بكل الجوانب بين الشريكين من النواحي الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية... وليس فقط في الدين والخلق كما يظن البعض. فمن حق كل طرف اختيار المواصفات التي يجدها مناسبة.. ومن حق المرأة أن تشعر بالأمان مع الشريك الآخر.. وهذا ينطبق على المتدينين وغير المتدينين والعاملين بالحقل الدعوي وغير العاملين...
أما كيف نُزيل هذه النظرة العنصرية من النفوس وتعاملاتنا الاجتماعية، وتحديداً فيما يتعلق بالزواج؟ فقالت: الأهم هو الاقتناع بضرورة التكافؤ بين الشريكين، ففي حال استطاع الرجل تأمين مستوى يليق بالفتاة فلا بأس بذلك، أما محاربة الفكرة لمجرد وجودها فهذا خطأ برأيي؛ فلكل أمر سلبياته و إيجابياته.
• أما الشيخ عثمان دياب (الباحث الشرعي ومسؤول لجنة الدعوة في جمعية الاتحاد الإسلامي) فقال: «عرّف العلماء قديماً العنصرية بأنها مذهب المتعصبين لعنصرهم - أي جنسهم - أو القبيلة أو العرق أو اللدن مع احتقار الآخر، وهذا يُخالف ما دعا إليه الإسلام.
وقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله [قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». كما روى الإمام أحمد في مسنده أنه [قال لأهل بيته: «لا تأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم». من هنا ندرك أن التعامل مع الناس من منطلق العنصرية هو من الجاهلية المقيتة التي حرّمها الإسلام.
• وأما الكفاءة في النكاح أو الزواج فهذا حقّ أعطاه الإسلام لأولياء الزوجة، والمقصود بالكفاءة: المماثلة والمساواة في الدين (التقوى والصلاح)، والنسب، واليسار (المال)، والحرفة (المهنة)، والحرية، والسلامة من العيوب (الجسمية - الأمراض)؛ وهذه الأمور مختلف فيها عند الفقهاء.
على كلٍّ الكفاءة شُرعت وأُجيزت لمصلحة الزوجين لكي يحصُل تآلف ومودة واستمرار للحياة الزوجية مع التنبيه إلى أن الخداع في موضوع الكفاءة قد يؤدي إلى فسخ الزواج لأنّ الكفاءة حقّ المتعاقدين؛ فإذا خُدع أحد الزوجين فالشرع أعطاه الحقّ بفسخ الزواج. أما إن تنازل عن حقه في الكفاءة في النسب مثلاً أو اليسار أو حتى المهنة فالشرع لا يمنع إجراء عقد الزواج.
• أما موضوع الجنسية (لبناني/ فلسطيني) فهو لا يُعتبر من الكفاءة عند الفقهاء، علماً أن بعضهم جعلوا النسب (أي عربي أو عجمي) من الكفاءة. لكن في عرفنا الحاضر قد يكون لهذا الأمر اعتبار، ويأخذ به الشرع إذا اعتُبر فيه إضرارٌ - معتبَرٌ في الشرع للزوجة (المرأة)، مما يضر بأوليائها.
• وأما بالنسبة لكيفية إزالة هذه النظرة العنصرية في النفوس والتعامل فهذا يحتاج إلى توجيه تربوي مبني على أسس شرعية (قرآنية ونبوية)، والأصل في المسلم إذا ظهر له حرمة العنصرية أن يلتزم بهدي الإسلام ويترك هذا السلوك الجاهلي، وكذلك ينبغي على المؤسسات وطبقات المجتمع كافة أن تتعاون للقضاء على العنصرية المقيتة. والله تعالى أعلم.
• • • • • •
ختاماً نقول:
المسلم الحقّ يتعامل مع البشر بشكل عام وفي كل المجالات وفي موضوع الزواج خصوصاً بموازين سماوية.. ربّانية.. لا أرضية، أي بميزان الله تعالى الذي دعانا للتفضيل بين الناس على أساس التقوى والعمل الصالح: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... ﴾ [الحجرات: 13]، مع مراعاة مبدأ التكافؤ الذي أقرّه وأجازه الشرع بضوابطه.. مذكّرين بقول الإمام علي رضي الله عنه:
لعَمْرُك ما الإنسانُ إلا بدينِهِ
فلا تترك التقوى اتّكالاً على النَّسَبِ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن