طفلتي تعاني وأنا عاجزة عن الحل
التاريخ:
614 مشاهدة
السؤال
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،
أشكركم علي موقعكم الأكثر من رائع، وأسال الله أن يوفقكم لما يحبه ويرضاه.
مشكلتي تتلخَّص في أن ابنتي وعمرها 9سنوات تخاف من الموت بشكل غير طبيعي، لدرجة أنها لا تنام أحيانًا كثيرة، وتقوم من النوم تبكي وتقول: أنا خائفة، أن تكبري يا أمي، ثم تموتي أنت وأبي، أحاول أن أهدِّئها، لكنها تكون خائفة لدرجة الرعب، وتقول: أنا لا أريد أن أكبر لئلاَّ أموت، مع العلم أننا مقيمون بالسعودية، وعلاقاتنا محدودة مع الناس؛ ونظرًا لعادات الشعب السعودي فنادرٌ جدًّا جدًّا إذا عرفنا بمجرد الصدفة أن أحد الناس قد تُوفِّي؛ يعني: الموت شيء غير دارجٍ في حياتنا.
أنا خائفة عليها جدًّا، مع العلم وأنا صغيرة كنت أصاب بالرعب إذا سمعتُ مكبِّرات الصوت تخبر عن وفاه أحد الأشخاص؛ لأن بمصر طبعًا إذا تُوفِّى أحدٌ يخبرون الناس عن طريق مكبِّرات الصوت بالمساجد.
أشكركم علي موقعكم الأكثر من رائع، وأسال الله أن يوفقكم لما يحبه ويرضاه.
مشكلتي تتلخَّص في أن ابنتي وعمرها 9سنوات تخاف من الموت بشكل غير طبيعي، لدرجة أنها لا تنام أحيانًا كثيرة، وتقوم من النوم تبكي وتقول: أنا خائفة، أن تكبري يا أمي، ثم تموتي أنت وأبي، أحاول أن أهدِّئها، لكنها تكون خائفة لدرجة الرعب، وتقول: أنا لا أريد أن أكبر لئلاَّ أموت، مع العلم أننا مقيمون بالسعودية، وعلاقاتنا محدودة مع الناس؛ ونظرًا لعادات الشعب السعودي فنادرٌ جدًّا جدًّا إذا عرفنا بمجرد الصدفة أن أحد الناس قد تُوفِّي؛ يعني: الموت شيء غير دارجٍ في حياتنا.
أنا خائفة عليها جدًّا، مع العلم وأنا صغيرة كنت أصاب بالرعب إذا سمعتُ مكبِّرات الصوت تخبر عن وفاه أحد الأشخاص؛ لأن بمصر طبعًا إذا تُوفِّى أحدٌ يخبرون الناس عن طريق مكبِّرات الصوت بالمساجد.
الجواب
تلقيت مثل هذا السؤال مرات كثيرة في عدد من اللقاءات والدورات التربوية التي يسّر الله لي المشاركة فيها، لذلك أُطمئنك ابتداء إلى أن هذه ليست حالة نادرة، وأرجو أنّ علاجها يسير بإذن الله.
إن الخوف من الموت شعور عام يشترك فيه أكثر الناس، فاسمحي لي أن أتحدث قليلاً عن هذه الظاهرة قبل الانتقال إلى علاج حالة ابنتك ذاتها.
لماذا يخاف الناس من الموت؟ لأنه انتقال إلى عالم مجهول أو إلى عالم مكنون (مغطى محجوب عن المدارك والأبصار). الطفل الذي يخشى الظلام لا يخشاه لذاته بل لأنه يغطي الدنيا التي يعرفها فيخفيها عن عينيه؛ إنه يرى غرفته في ضوء النهار ويألفها ويحبها، فإذا جاء الليل وغاب الضياء وأطفأت أمه مصباح السقف أظلمت الغرفة واختفت معالمها فخالط قلبَه الخوفُ، فما هي إلا "ضغطة" على مفتاح النور حتى يزول الخوف ويعود الاطمئنان.
فإذا كانت مخاوف الطفل من الظلام تزول بضوء مصباح صغير أنار الغرفة فأذهب خفاءها وأبان معالمها، أفلا يمكن أن يعالج الناس مخاوفهم من الموت بالطريقة ذاتها؟ بلى، لو أنهم عرفوا كيف يضغطون "مفتاح النور"، لو أنهم عرفوا حقيقة ما بعد الموت. وماذا بعد الموت؟ هذه هي القصة التي يمكن أن يرويها لنفسه من يخشى الموت، أو أن نرويها اليوم لمن يخشى الموت من الناس.
لنسأل أنفسنا: من أين جئنا يوم وُلدنا؟ الجواب: من أرحام أمهاتنا. وهل صُنع الواحد منا في رحم أمه أم أنه كان قبله في هيئة ما في مكان ما؟ القرآن يقول إننا كنا موجودين من قبل، وهو لا يوضح لنا كيف كنا وأين ومتى، لكنه يخبرنا أننا وقفنا بين يدي الله وأننا شهدنا بربوبيته عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. هذه الحادثة لا نذكرها وما كان لنا أن نعرفها لولا أن الله عرّفَنا بها، والعلماء يسمّون العالَم الذي كنا فيه وقتها بتسمية اصطلاحية هي "عالم الذر"، من قوله تبارك وتعالى {ذُرِّيَّتَهُمْ}، ولا يعرفون عن هذا العالم -عدا اسمه- أي شيء.
فنحن كنا موجودين قبل أن نولد، ونحن موجودون بعد أن نموت، كل ما في الأمر أن "شكل وجودنا" يختلف بين مرحلة ومرحلة. إننا ننظر إلى الميت فنراه قد سكن وبرد بعدما كان قادراً على الحركة ومتمتعاً بحرارة الحياة، ثم يُلَفّ في الأكفان ويودع تحت التراب، فهل "انتهى" من الوجود إذن؟ هنا الفكرة الكبرى في هذه القصة كلها: لا، لم ينته وجوده ولكن انتهت وظيفة "الثوب" أو الإناء. الجسد كان إناء فقط، وهو إناء مُتعِب ومقيِّد لأنه محكوم بقوانين العالم المادي الذي يعيش فيه، فهو ممنوع من حرية الحركة بسبب قانون الجاذبية (وهو من أهم قوانين الفيزياء)، وهو معرَّض للتآكل والهرم بسبب قانون الأنتروبيا (وهو من أهم قوانين الديناميكا الحرارية)، إلى غير ذلك من قيود قوانين هذه الدنيا... ومن ثَمّ فإن "الكائن" المحبوس في هذا الإناء يتوق إلى مغادرته وإلى التحرر من قيوده، وهذا لا يتحقق إلا بالموت.
فإذا رأينا أن شخصاً مات فإنما يكون قد ترك "جسده" الذي كان -كما قلنا- إناء أو ثوباً مؤقتاً، وعندئذ يتحرر الكائن الحقيقي الذي هو الإنسان، وما هو هذا الكائن؟ القرآن يعطينا الجواب: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، هل لاحظت الجواب؟ {يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ}. فالنفس إذن هي الإنسان، والبدن ثوب سكنته لبعض الوقت، ولو أن هذا الثوب نقص لما نقصت النفس. قد تُبتَر رِجْلٌ أو يد وتبقى النفس كاملة، وقد يُشَلّ الجسم فيعجز عن الحركة وتبقى النفس كاملة. وكذلك يموت الجسم كله وتبقى النفس كاملة، كل ما في الأمر هو أنها تنتقل من الإقامة في دار إلى الإقامة في دار أخرى.
وهذه الدار الأخرى ليست هي دار القرار، بل إنها دار مؤقتة أيضاً، هي حياة "البرزخ" التي تنتهي بالحياة الأخيرة الخالدة الباقية، حياة الآخرة. ولو أنك تتبعت آيات الحساب والجزاء لوجدت أن النفس هي المَعنية بها، كقوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}، وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}، وقوله: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، وقوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}... إلى آخر هذه الآيات، وهي كثيرة جداً.
وما حياة البرزخ التي تنتقل "أنفسُنا" بعد الموت إليها؟ هل نعرف عنها شيئاً؟ لحسن الحظ: نعم. اقرئي -إن شئت- كتاب "الروح" لابن القيم أو "التذكرة" للقرطبي، وكلاهما يختلط فيه الصحيح بالضعيف، لكن فيهما ما يفيد على أية حال. وخير منهما كتاب "القيامة الصغرى" للشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر.
ولعل الخلاصة التي نستطيع أن نَصِف بها حياة الناس في البرزخ هي أن الصالحين يمضونها في تنعّم وهناء، والطالحين يقضونها في عذاب وشقاء؛ فقد ورد في حديث المعراج الطويل الذي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما استُفتح له ولجبريل على باب السماء الدنيا- لقي آدم، قال: "فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته تُعرَض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها على عليين، ثم تُعرَض عليه أرواح ذريته الفجّار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجّين". وفي رواية البخاري "فلما فُتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدة وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك وإذا نظر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل شماله بكى". (النَّسَم: الروح أو الخَلْق والناس، ويقولون اليوم إن في هذا البلد أو ذلك كذا مليون نَسَمة، بالمعنى ذاته، ومنه الفعل تنسّم بمعنى تنفس. والأسودة جمع السواد، وهو في الأصل العدد الكثير من الناس، وقد تُطلق على الشخص الواحد).
وكل ما ورد في نعيم القبر وفي عذابه فإنما هو نعيم البرزخ أو عذابه، فإن الإنسان إذا غادر هذه الحياة الدنيا صار في البرزخ لا في أي مكان آخر، سواء أدُفن جسده تحت التراب أو غرق في البحر أو حُرق بالنار أو أكلته السباع. وقد وردت في نعيم القبر وحسن العيش فيه (أي في البرزخ) أحاديثُ صحيحة كثيرة، منها حديث البراء بن عازب الذي أخرجه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان وابن حجر في مشكاة المصابيح والمنذري في الترغيب والترهيب، وغيرهم من أصحاب الحديث، وصحّحه الألباني، وفيه أن المؤمن يتنعم في قبره نعيماً كبيراً: "... فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويُفسَح له في قبره مد بصره".
حسناً، لقد أطلت قليلاً في تفصيل حياتنا بعد الموت، وإنما صنعت ذلك عامداً لأنني وجدت أن الخوف من الموت مشكلة اشتركَت فيها -في سؤالنا هنا- الأمُّ وابنتها، لا البنت فقط. أنت صرّحت بأنك خفت من الموت فيما مضى، ولم تقطعي بأنك قد عُوفيت من هذا الخوف في كبرك، فلعل بقية منه بقيت في اللاشعور، في عقلك اللاواعي، فلنبدأ العلاج بطمأنتك أنت أولاً، فإنك إذا اطمأننتِ نقلتِ إلى ابنتك الاطمئنان، وإذا أمِنْتِ نقلت إليها الأمان، ولو أن الخوف من الموت بقي مكنوناً في قلبك لسرى الخوف منه إلى قلبها الصغير.
لقد حاولتُ أن أستشف من رسالتك سبباً يدعو البنت إلى الخوف من الموت، كحادثة وفاة في العائلة مثلاً، أو مشاهدتها أفلامَ قتل ورعب، أو مشاركتها في حادثة ذبح دجاجة أو ذبح خروف في يوم عيد... أيّ رابط يوصلنا إلى الخوف المَرَضي الذي تعاني منه الصغيرة، لكني لم أجد في رسالتك المقتضبَة ما يفيد. على أية حال لن يكون هذا عائقاً أمام الحل بإذن الله، لأن معرفة سبب الخوف القهري أمر مهم في بعض مدارس العلاج النفسي لا فيها كلها.
أنا وصفت هذا الخوف بأنه خوف قهري لأن الوصف الذي قدّمتِه في رسالتك يوحي بأنه كذلك، وحتى لا أضطر إلى إعادة شيء مما كتبته مؤخراً فإنني أحيلك على مشكلة سابقة فصّلتُ في جوابها الحديث عن الخوف القهري.
عندما تقرئين جوابي على تلك المشكلة سوف تدركين معنى الخوف القهري أو الرُّهاب (الفوبيا)، ومن أنواعه حالة الخوف من الموت التي وصفتها في رسالتك، ويسميها علماء النفس "نكروفوبيا". هذا الرهاب أكثر شيوعاً في الغرب منه في مجتمعاتنا، أو أن نقص الإحصاءات عندنا يوحي بذلك، وفي العادة فإنه ينشأ في النفس بسبب حادثة شديدة التأثير، كفَقْد عزيز قريب أو مشاهدة جريمة قتل (وقد تكون تمثيلاً سينمائياً) أو التعرض لحادثة خطيرة (حادثة سيارة أو حريق أو غير ذلك من المخاطر الشديدة)... وقد ينتقل الخوف إلى الطفل من أحد الراشدين، لأن الكبار هم القدوة للصغار وهم جدار الحماية لهم والسند الذي يمدّهم بالأمان، فإذا ضَعُفَ الكبير أو انهار أمام المخاوف والصعوبات فلا يُستبعَد أن يلحق به الصغير.
فابدئي العلاج بالوقاية:
(أ) استعيدي موقف التوازن والاطمئنان من الموت، وتأكدي أنك أنت نفسك مسترخية تماماً فيما يخص موتك، ومتقبّلة بإيمان ورضا واطمئنان موتَ غيرك من الأحبة والأقارب.
(ب) بعد ذلك احرصي على عزل ابنتك عن أي مؤثرات سلبية، كأشخاص يُرهبونها بالموت أو آخرين يحدثونها عن الموت أحاديث مرعبة مخيفة.
(ج) وامنعيها من مشاهدة الأفلام المرعبة والمحزنة التي يكثر فيها الموت والقتل، وكذلك من قراءة القصص التي تعتمد حبكتها وعقدتها على المآسي والتفاصيل المحزنة.
أما العلاج نفسه فاصبري عليه بعض الوقت، فإننا نريد تغيير "طريقة تفكير" الصغيرة بالموت لا مجرد تصحيح معلوماتها عنه، وتغييرُ منهج التفكير أصعب من تغيير الأفكار، وإن يكن تغيير الأفكار هو الطريق لصنع هذا التغيير. ابدئي بتوضيح القصة كلها لهذه الفتاة، وهي ليست كبيرة تماماً لتفهم كل شيء ولكنها واعية وعاقلة بحيث تدرك الأجزاء الرئيسية من الموضوع. ركزي بقوة ومثابَرة على المفاهيم التالية:
(أ) السهولة التي تنتقل بها الروح من البدن، وأفضل ما يشبَّه به هذا الانتقال هو النوم، ففي النوم تفارق النفسُ البدنَ كما تفارقه عند الموت، إلا أنها تعود إليه إذا استيقظ النائم ولا تعود إذا مات الميت (كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى في الآية المذكورة سابقاً).
(ب) الراحة من قيود الجسد المتعبة وتكاليفه المضنية، من تعب ونصب وغم وهم ومرض ووهن، ومن السعي المتعب لتأمين المعاش في هذه الدنيا.
(ج) الجزاء الحسن الذي يلقاه المؤمنون بعد الموت والمآل الطيب الذي إليه يؤولون، على ما تفصّله الأحاديث والآثار الواردة في ذلك.
واجعلي من كل ما سبق دافعاً وحافزاً يزيدها إقبالاً على الدين، ويشجّعها على التخلّق بخلق الإسلام والتحلي بآدابه واتباع سنّة نبيه.
ويمكنك أن تدعمي الفكرة الرئيسية التي نسعى إليها (تهوين شأن الموت ونفي أي سبب يدعو إلى الخوف منه) بالتركيز على هذا المقطع من حديث المعراج الذي رواه البيهقي (الذي أشرت إليه قبل قليل)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت أنا وجبريل عليه السلام بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أُتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم يَرَ الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيتم الميت حين يشقّ بصره طامحاً إلى السماء؟ فإنما يشقّ بصرَه طامحاً إلى السماء عجبُه بالمعراج". فإنّ تخيل هذه الصورة سيزيد المرءَ استسهالاً للموت وتقبّلاً له.
على أن من المهم جداً أن لا تبالغي في تجميل عالم ما بعد الموت وامتداحه حتى تبلغي بالبنت الصغيرة درجة تَمَنّيه، فإن في ذلك خطراً على نفسيتها على المدى الطويل، لأنه سوف يُفقدها الرغبة في الحياة والقدرة على الاستمتاع بها، وعلى حياتها ذاتها على المدى القصير، فقد سجّلت الدراساتُ النفسية بعضَ الحالات الغريبة لأطفال تشوقوا إلى الموت بسبب موت عزيز عليهم (أمّ أو أب أو جدة أو جد)، وبسبب المبالغة في تهوين الموت عليهم وتحبيبه إليهم، ولأنهم كانوا مشتاقين إلى مَن فقدوا مِن الأحباب، فقد قتلوا أنفسهم ليتنعّموا بالموت وليلحقوا بمن يحبون!
ولعل من أحسن أسباب الوقاية من مثل هذا السلوك المتطرف -حمانا منه الله وحمى منه أولادَنا- أن نبكر بتلقينهم حُكم الانتحار وسوء عاقبته. وأذكر أني لما كنت في المدرسة أن واحداً من الأحاديث التي درسناها وحفظناها كان الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً". وما يزال لفظ هذا الحديث في ذهني ومعناه في قلبي اليوم كما كان يوم درسته قبل أربعين سنة أو نحوها، وكذلك يصنع التعليم والتلقين في الصغر.
أسأل الله أن يمنّ عليك وعلى ابنتك بنعمة الإيمان والاطمئنان والأمان، وأن يجعلها من الصالحات في الدنيا الفالحات في الآخرة.
إن الخوف من الموت شعور عام يشترك فيه أكثر الناس، فاسمحي لي أن أتحدث قليلاً عن هذه الظاهرة قبل الانتقال إلى علاج حالة ابنتك ذاتها.
لماذا يخاف الناس من الموت؟ لأنه انتقال إلى عالم مجهول أو إلى عالم مكنون (مغطى محجوب عن المدارك والأبصار). الطفل الذي يخشى الظلام لا يخشاه لذاته بل لأنه يغطي الدنيا التي يعرفها فيخفيها عن عينيه؛ إنه يرى غرفته في ضوء النهار ويألفها ويحبها، فإذا جاء الليل وغاب الضياء وأطفأت أمه مصباح السقف أظلمت الغرفة واختفت معالمها فخالط قلبَه الخوفُ، فما هي إلا "ضغطة" على مفتاح النور حتى يزول الخوف ويعود الاطمئنان.
فإذا كانت مخاوف الطفل من الظلام تزول بضوء مصباح صغير أنار الغرفة فأذهب خفاءها وأبان معالمها، أفلا يمكن أن يعالج الناس مخاوفهم من الموت بالطريقة ذاتها؟ بلى، لو أنهم عرفوا كيف يضغطون "مفتاح النور"، لو أنهم عرفوا حقيقة ما بعد الموت. وماذا بعد الموت؟ هذه هي القصة التي يمكن أن يرويها لنفسه من يخشى الموت، أو أن نرويها اليوم لمن يخشى الموت من الناس.
لنسأل أنفسنا: من أين جئنا يوم وُلدنا؟ الجواب: من أرحام أمهاتنا. وهل صُنع الواحد منا في رحم أمه أم أنه كان قبله في هيئة ما في مكان ما؟ القرآن يقول إننا كنا موجودين من قبل، وهو لا يوضح لنا كيف كنا وأين ومتى، لكنه يخبرنا أننا وقفنا بين يدي الله وأننا شهدنا بربوبيته عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. هذه الحادثة لا نذكرها وما كان لنا أن نعرفها لولا أن الله عرّفَنا بها، والعلماء يسمّون العالَم الذي كنا فيه وقتها بتسمية اصطلاحية هي "عالم الذر"، من قوله تبارك وتعالى {ذُرِّيَّتَهُمْ}، ولا يعرفون عن هذا العالم -عدا اسمه- أي شيء.
فنحن كنا موجودين قبل أن نولد، ونحن موجودون بعد أن نموت، كل ما في الأمر أن "شكل وجودنا" يختلف بين مرحلة ومرحلة. إننا ننظر إلى الميت فنراه قد سكن وبرد بعدما كان قادراً على الحركة ومتمتعاً بحرارة الحياة، ثم يُلَفّ في الأكفان ويودع تحت التراب، فهل "انتهى" من الوجود إذن؟ هنا الفكرة الكبرى في هذه القصة كلها: لا، لم ينته وجوده ولكن انتهت وظيفة "الثوب" أو الإناء. الجسد كان إناء فقط، وهو إناء مُتعِب ومقيِّد لأنه محكوم بقوانين العالم المادي الذي يعيش فيه، فهو ممنوع من حرية الحركة بسبب قانون الجاذبية (وهو من أهم قوانين الفيزياء)، وهو معرَّض للتآكل والهرم بسبب قانون الأنتروبيا (وهو من أهم قوانين الديناميكا الحرارية)، إلى غير ذلك من قيود قوانين هذه الدنيا... ومن ثَمّ فإن "الكائن" المحبوس في هذا الإناء يتوق إلى مغادرته وإلى التحرر من قيوده، وهذا لا يتحقق إلا بالموت.
فإذا رأينا أن شخصاً مات فإنما يكون قد ترك "جسده" الذي كان -كما قلنا- إناء أو ثوباً مؤقتاً، وعندئذ يتحرر الكائن الحقيقي الذي هو الإنسان، وما هو هذا الكائن؟ القرآن يعطينا الجواب: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، هل لاحظت الجواب؟ {يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ}. فالنفس إذن هي الإنسان، والبدن ثوب سكنته لبعض الوقت، ولو أن هذا الثوب نقص لما نقصت النفس. قد تُبتَر رِجْلٌ أو يد وتبقى النفس كاملة، وقد يُشَلّ الجسم فيعجز عن الحركة وتبقى النفس كاملة. وكذلك يموت الجسم كله وتبقى النفس كاملة، كل ما في الأمر هو أنها تنتقل من الإقامة في دار إلى الإقامة في دار أخرى.
وهذه الدار الأخرى ليست هي دار القرار، بل إنها دار مؤقتة أيضاً، هي حياة "البرزخ" التي تنتهي بالحياة الأخيرة الخالدة الباقية، حياة الآخرة. ولو أنك تتبعت آيات الحساب والجزاء لوجدت أن النفس هي المَعنية بها، كقوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}، وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}، وقوله: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، وقوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}... إلى آخر هذه الآيات، وهي كثيرة جداً.
وما حياة البرزخ التي تنتقل "أنفسُنا" بعد الموت إليها؟ هل نعرف عنها شيئاً؟ لحسن الحظ: نعم. اقرئي -إن شئت- كتاب "الروح" لابن القيم أو "التذكرة" للقرطبي، وكلاهما يختلط فيه الصحيح بالضعيف، لكن فيهما ما يفيد على أية حال. وخير منهما كتاب "القيامة الصغرى" للشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر.
ولعل الخلاصة التي نستطيع أن نَصِف بها حياة الناس في البرزخ هي أن الصالحين يمضونها في تنعّم وهناء، والطالحين يقضونها في عذاب وشقاء؛ فقد ورد في حديث المعراج الطويل الذي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما استُفتح له ولجبريل على باب السماء الدنيا- لقي آدم، قال: "فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته تُعرَض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها على عليين، ثم تُعرَض عليه أرواح ذريته الفجّار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجّين". وفي رواية البخاري "فلما فُتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدة وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك وإذا نظر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل شماله بكى". (النَّسَم: الروح أو الخَلْق والناس، ويقولون اليوم إن في هذا البلد أو ذلك كذا مليون نَسَمة، بالمعنى ذاته، ومنه الفعل تنسّم بمعنى تنفس. والأسودة جمع السواد، وهو في الأصل العدد الكثير من الناس، وقد تُطلق على الشخص الواحد).
وكل ما ورد في نعيم القبر وفي عذابه فإنما هو نعيم البرزخ أو عذابه، فإن الإنسان إذا غادر هذه الحياة الدنيا صار في البرزخ لا في أي مكان آخر، سواء أدُفن جسده تحت التراب أو غرق في البحر أو حُرق بالنار أو أكلته السباع. وقد وردت في نعيم القبر وحسن العيش فيه (أي في البرزخ) أحاديثُ صحيحة كثيرة، منها حديث البراء بن عازب الذي أخرجه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان وابن حجر في مشكاة المصابيح والمنذري في الترغيب والترهيب، وغيرهم من أصحاب الحديث، وصحّحه الألباني، وفيه أن المؤمن يتنعم في قبره نعيماً كبيراً: "... فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويُفسَح له في قبره مد بصره".
حسناً، لقد أطلت قليلاً في تفصيل حياتنا بعد الموت، وإنما صنعت ذلك عامداً لأنني وجدت أن الخوف من الموت مشكلة اشتركَت فيها -في سؤالنا هنا- الأمُّ وابنتها، لا البنت فقط. أنت صرّحت بأنك خفت من الموت فيما مضى، ولم تقطعي بأنك قد عُوفيت من هذا الخوف في كبرك، فلعل بقية منه بقيت في اللاشعور، في عقلك اللاواعي، فلنبدأ العلاج بطمأنتك أنت أولاً، فإنك إذا اطمأننتِ نقلتِ إلى ابنتك الاطمئنان، وإذا أمِنْتِ نقلت إليها الأمان، ولو أن الخوف من الموت بقي مكنوناً في قلبك لسرى الخوف منه إلى قلبها الصغير.
لقد حاولتُ أن أستشف من رسالتك سبباً يدعو البنت إلى الخوف من الموت، كحادثة وفاة في العائلة مثلاً، أو مشاهدتها أفلامَ قتل ورعب، أو مشاركتها في حادثة ذبح دجاجة أو ذبح خروف في يوم عيد... أيّ رابط يوصلنا إلى الخوف المَرَضي الذي تعاني منه الصغيرة، لكني لم أجد في رسالتك المقتضبَة ما يفيد. على أية حال لن يكون هذا عائقاً أمام الحل بإذن الله، لأن معرفة سبب الخوف القهري أمر مهم في بعض مدارس العلاج النفسي لا فيها كلها.
أنا وصفت هذا الخوف بأنه خوف قهري لأن الوصف الذي قدّمتِه في رسالتك يوحي بأنه كذلك، وحتى لا أضطر إلى إعادة شيء مما كتبته مؤخراً فإنني أحيلك على مشكلة سابقة فصّلتُ في جوابها الحديث عن الخوف القهري.
عندما تقرئين جوابي على تلك المشكلة سوف تدركين معنى الخوف القهري أو الرُّهاب (الفوبيا)، ومن أنواعه حالة الخوف من الموت التي وصفتها في رسالتك، ويسميها علماء النفس "نكروفوبيا". هذا الرهاب أكثر شيوعاً في الغرب منه في مجتمعاتنا، أو أن نقص الإحصاءات عندنا يوحي بذلك، وفي العادة فإنه ينشأ في النفس بسبب حادثة شديدة التأثير، كفَقْد عزيز قريب أو مشاهدة جريمة قتل (وقد تكون تمثيلاً سينمائياً) أو التعرض لحادثة خطيرة (حادثة سيارة أو حريق أو غير ذلك من المخاطر الشديدة)... وقد ينتقل الخوف إلى الطفل من أحد الراشدين، لأن الكبار هم القدوة للصغار وهم جدار الحماية لهم والسند الذي يمدّهم بالأمان، فإذا ضَعُفَ الكبير أو انهار أمام المخاوف والصعوبات فلا يُستبعَد أن يلحق به الصغير.
فابدئي العلاج بالوقاية:
(أ) استعيدي موقف التوازن والاطمئنان من الموت، وتأكدي أنك أنت نفسك مسترخية تماماً فيما يخص موتك، ومتقبّلة بإيمان ورضا واطمئنان موتَ غيرك من الأحبة والأقارب.
(ب) بعد ذلك احرصي على عزل ابنتك عن أي مؤثرات سلبية، كأشخاص يُرهبونها بالموت أو آخرين يحدثونها عن الموت أحاديث مرعبة مخيفة.
(ج) وامنعيها من مشاهدة الأفلام المرعبة والمحزنة التي يكثر فيها الموت والقتل، وكذلك من قراءة القصص التي تعتمد حبكتها وعقدتها على المآسي والتفاصيل المحزنة.
أما العلاج نفسه فاصبري عليه بعض الوقت، فإننا نريد تغيير "طريقة تفكير" الصغيرة بالموت لا مجرد تصحيح معلوماتها عنه، وتغييرُ منهج التفكير أصعب من تغيير الأفكار، وإن يكن تغيير الأفكار هو الطريق لصنع هذا التغيير. ابدئي بتوضيح القصة كلها لهذه الفتاة، وهي ليست كبيرة تماماً لتفهم كل شيء ولكنها واعية وعاقلة بحيث تدرك الأجزاء الرئيسية من الموضوع. ركزي بقوة ومثابَرة على المفاهيم التالية:
(أ) السهولة التي تنتقل بها الروح من البدن، وأفضل ما يشبَّه به هذا الانتقال هو النوم، ففي النوم تفارق النفسُ البدنَ كما تفارقه عند الموت، إلا أنها تعود إليه إذا استيقظ النائم ولا تعود إذا مات الميت (كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى في الآية المذكورة سابقاً).
(ب) الراحة من قيود الجسد المتعبة وتكاليفه المضنية، من تعب ونصب وغم وهم ومرض ووهن، ومن السعي المتعب لتأمين المعاش في هذه الدنيا.
(ج) الجزاء الحسن الذي يلقاه المؤمنون بعد الموت والمآل الطيب الذي إليه يؤولون، على ما تفصّله الأحاديث والآثار الواردة في ذلك.
واجعلي من كل ما سبق دافعاً وحافزاً يزيدها إقبالاً على الدين، ويشجّعها على التخلّق بخلق الإسلام والتحلي بآدابه واتباع سنّة نبيه.
ويمكنك أن تدعمي الفكرة الرئيسية التي نسعى إليها (تهوين شأن الموت ونفي أي سبب يدعو إلى الخوف منه) بالتركيز على هذا المقطع من حديث المعراج الذي رواه البيهقي (الذي أشرت إليه قبل قليل)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت أنا وجبريل عليه السلام بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أُتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم يَرَ الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيتم الميت حين يشقّ بصره طامحاً إلى السماء؟ فإنما يشقّ بصرَه طامحاً إلى السماء عجبُه بالمعراج". فإنّ تخيل هذه الصورة سيزيد المرءَ استسهالاً للموت وتقبّلاً له.
على أن من المهم جداً أن لا تبالغي في تجميل عالم ما بعد الموت وامتداحه حتى تبلغي بالبنت الصغيرة درجة تَمَنّيه، فإن في ذلك خطراً على نفسيتها على المدى الطويل، لأنه سوف يُفقدها الرغبة في الحياة والقدرة على الاستمتاع بها، وعلى حياتها ذاتها على المدى القصير، فقد سجّلت الدراساتُ النفسية بعضَ الحالات الغريبة لأطفال تشوقوا إلى الموت بسبب موت عزيز عليهم (أمّ أو أب أو جدة أو جد)، وبسبب المبالغة في تهوين الموت عليهم وتحبيبه إليهم، ولأنهم كانوا مشتاقين إلى مَن فقدوا مِن الأحباب، فقد قتلوا أنفسهم ليتنعّموا بالموت وليلحقوا بمن يحبون!
ولعل من أحسن أسباب الوقاية من مثل هذا السلوك المتطرف -حمانا منه الله وحمى منه أولادَنا- أن نبكر بتلقينهم حُكم الانتحار وسوء عاقبته. وأذكر أني لما كنت في المدرسة أن واحداً من الأحاديث التي درسناها وحفظناها كان الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً". وما يزال لفظ هذا الحديث في ذهني ومعناه في قلبي اليوم كما كان يوم درسته قبل أربعين سنة أو نحوها، وكذلك يصنع التعليم والتلقين في الصغر.
أسأل الله أن يمنّ عليك وعلى ابنتك بنعمة الإيمان والاطمئنان والأمان، وأن يجعلها من الصالحات في الدنيا الفالحات في الآخرة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن