أين نحن من غاية الصيام؟!!
يأتي علينا رمضان في كل عام ثم يرتحل، ونحن مازلنا نحوم حول المُفْطرات، ونسأل عن المُفْسدات، ونعقد الندوات والمحاضرات عن الإعجاز العلمي في الصيام، وعن فوائد الصيام... هذه الأمور جيدة، ومهم أن يعرف المسلم ماهي الأمور المُفسدة لصيامه، فهذا من التفقه في الدين، ولكن حتى متى نبقى في هذه الدائرة؛ دائرة الماديات والحسّيات؟ متى سنتعمق أكثر لنصل إلى إدراك الغاية من الصيام، وهي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله؟ متى سنصل إلى مرحلة أن نخرج من رمضان على غير ما دخلناه؟ فالأصل في الشعائر التعبدية كما يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: (إنشاء حالة شعورية تحكم سلوك المتعبد، وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحُسْن أدائه للعباده، وحُسْن سلوكه في الحياة).
يقول الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ: ((وللصوم ثلاث مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فأما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر واللسان واليد والرِّجل والسمع وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية)).
إنّ المسلم إذا فَسَدَ لا يصلح إلا بإصلاح تربيته، وإصلاح قلبه، واستحياء شعور التقوى في روحه، والتقوى هذه هي الغاية المفروض تحقُّقُها من الصيام، قال تعالى:﴿ يـٰأيُّها الَّذينَ ءامنوا كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ كما كُتِبَ على الذينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقون﴾..{البقرة:183}.
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ:((وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعةً لله، وإيثاراً لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تَهْجُسُ في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. "لعلكم تتقون..").
ومن اللفتات العجيبة التي تؤثر في أعماق النفس في سياق الحديث عن الصيام، قوله تعالى: ﴿وإذا سَألَكَ عبادي عنّي فإِنّي قريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ فلْيَسْتَجيبوا لي وَلْيُؤْمِنوا بي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدون﴾..{البقرة:186}. فالصائم قريب من الله بضعفه وانكساره، ودعوته مستجابة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" [حديث صحيح].
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ في ظلال هذه الآية: ((.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الوُدّ، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟ إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش فيها المؤمن في جناب رضيّ، وقُربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين. وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحيّة.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح)).
إن فَهْم الصيام على أنه عبادة بدنية وقلبية يجعلنا نخرج من دائرة الأمور المادية المحسوسة والتحليق أكثر في عالم الروحانيات، فبها تكون حياةُ القلب ونداوتُه.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا ممن قَبِلْتَ صيامه، وأسعدته بطاعتك فاستعدَّ لِما أمامَه، وغفرت زللـه وإجرامه، برحمتك يا أرحم الراحمين...آمين، والحمد لله رب العالمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا