مفارقات بين القضاء والقاضية
القضاء حصن العدالة كما قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِع الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26]. وقد أوصى سيدنا عمر أبا موسى الأشعري عندما أرسله قاضيًا على البصرة فقال: "آسِ بين الناس في نظرك ومجلسك و...؛ حتى لا ييأس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك".
والقاضية هي بالضبط ما قامت به المحكمة الدستورية المسيَّسة في الحكم المنحازة بامتياز للسلطة على حساب الشعب من خلال الحكم ببطلان قانون انتخاب ثلثي أعضائه، وبطلان قانون العزل السياسي، في غزلٍ سياسي للمجلس العسكري ومرشحه شفيق عدو الشعب، وضد المجلس الوحيد المنتخب، وفق قانون لم يصنعه مجلس الشعب الذي ألقيت على عاتقه -إعلاميًّا- كل شماعات الفشل السياسي من السلطة التنفيذية بدءًا من المجلس العسكري ومرورًا بمجلس الوزراء وحتى المحافظين والمحليات مما عشّش فيه و"كوش" عليه واحتكره النظام البائد، وفجأة وجدنا أنفسنا أمام الضربة القاضية على الثورة والثوار، والشهداء والجرحى، والدماء والأشلاء..
وهو حكم يتجاوز مرحلة كان المجلس العسكري -الذي فَقَد مصداقيته وقدرته حاكمًا وحاميًا معًا- يسلب الشعب شيئًا ويعطيه شيئًا ولو قليلاً، كما قدَّم عمر سليمان ليُخرِج بحيله التي لا تنتهي خيرت الشاطر من سباق الرئاسة، عندما تيقن أنه يكسب من الجولة الأولى، فأخرج خيرت وعمر سليمان مع بعضهما؛ فتكون بالعبارة المصرية "بصرة"، أو هذه بتلك في فصيح العرب.
لكن المجلس العسكري تجاوز هذه المرحلة ليستعمل القضاء في الضربة القاضية، ويأبى أن تنزل كلمة رئيس وزرائه الجنزوري عندما وعد أو توعّد رئيس مجلس الشعب د. الكتاتني: بأن قرار حل المجلس عندنا في درج المحكمة الدستورية، وعندما صرح الكتاتني -المنتخَب بكل نزاهة أشاد بها القاصي والداني- على قناة الجزيرة، خرج الجنزوري مكذبًا الكتاتني، الذي تحلّى كعادته بأعلى درجات الأدب عندما سُئِل: ما ردُّك؟ فقال: إن رئيس مجلس الشعب لا يكذب. وها هي الأيام قبل شهرين من هذا التصريح يصدق الكتاتني ويكذب الجنزوري، فليس حكم القضاء بل القاضية على الشعب وثورته، فيحل المجلس ويثبت شفيق في تحدٍّ صارخ لكل الاعتبارات القانونية والسياسية والأخلاقية.
وكأن كل من جاء من رحم الدكتاتورية والتزوير، والفساد والاستبداد لا يطيق أن يرى دائرة واحدة منتخبة بنزاهة، ولو كنا أمام قضاء عادل فلماذا تتأخر قضايا لسنوات عديدة أمام الدستورية وغيرها ولم يبتَّ فيها، وأُخذت هذه على وجه الاستعجال؟!! ولماذا مكثت المحكمة الدستورية أيام مبارك فوق ثلاث سنوات حتى تحكم في دستورية قانون انتخاب المجلس، وعندما حكمت ببطلان قانون انتخاب المجلس، وصل الحكم للرئيس المخلوع كي يصدر قراره بعد أيام بحل المجلس..
لكنّا -والله- لسنا أمام قضاء عادل بل نحن أمام مصارعين يتدربون على الضربة القاضية للثورة والثوار والشهداء والجرحى، ولو رتبنا بعض الأحداث سنفهم جيدًا: الضربة القاضية القريبة بدأت بالحكم المجامل لمجرمي مصر مثل مبارك وأولاده وأعوانه في قتل الثوار وبراءة من فرموا الأدلة الجنائية، ثم تدني أسلوب "الزند" على ممثلي الشعب كله بأسلوب لو نزلت إلى قاع المجتمع فربما تسمع لغة أرفع منه، وكان مجلس الشعب رفيعًا ديانة وسياسة، عندما أكد على احترام القضاء وانتظر من رئيس مجلس القضاء الأعلى أن يقول رأيه في لغة "الزند"، ومرَّت دون تعليق ولا تصعيد؛ حفاظًا على شعرة معاوية.
ولكن هناك إصرارًا على الاستمرار في الضربة القاضية للشعب والثوار والشهداء والجرحى، بل زاد الطين بلة بصدور قرار وزير العدل بقوة القانون، بإعطاء الحق لضباط الجيش وضباط الصف مع الشرطة سلطة الضبط القضائي، وسبحان الله! مجلس الشعب الذي انتخبه ثلاثون مليونًا ليس له حق إصدار قانون وهي أولى صلاحياته، ووزير العدل المعيَّن من الجنزوري أو المجلس العسكري له الحق وحده في إصدار قانون، وفقًا لديمقراطية العسكري والجنزوري؛ مما يدخل الجيش في صراع مع الشعب المسكين، في الوقت الذي يجب أن يحمي مصر من الصهاينة والمعتدين..!!
ثم لا يمر يوم حتى جاءت ثالثة الأثافي والضربة القاضية للثوار والثورة والشهداء والجرحى، ألا وهو حكم المحكمة الدستورية الذي كان أسوأ من الوصف العربي "أحشفًا وسوء كيلة"، وهو مثل يُضرب لمن جمع سوءتين لا يجتمعان.. لكن البلطجة الكبرى التي لم تحدث في تاريخ الشعوب وجانبت كل اللياقة والأناقة، آسف كل المبادئ الأخلاقية والسياسية في تطويق مجلس الشعب فورًا بالجيش والشرطة ومنع أعضاء مجلس الشعب ممثلي الشعب المصري من الدخول ودون انتظار حتى يصل الحكم لرئيس مجلس الشعب ثم يتناقش، ولو لم يعجب المشير يقوم هو بحل المجلس..
كما يمكن أن يكون لو كان القوم يحترمون أنفسهم أمام الشعب الذي انتخب هؤلاء، وقد افتخر المجلس العسكري بكفاءته ونزاهته بإدارة انتخاب مجلس الشعب بكل شفافية، لكن القوم من الواضح أنهم قرروا تجريف الديمقراطية والشورى والشعب، وأن الانتخابات هي مهزلة كبرى إذا جاءت بمن لا نريد، فقد أعددنا القانون الأصلي مفخخًا، يمكن به توجيه الضربة القاضية في الوقت الذي نراه، هذا ما يجري في الأرض في عالم الشهادة، أما ما يجري في السماء في عالم الغيب فهو قوله تعالى:
(وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [إبراهيم: 46، 47]، وقال تعالى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]، وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59].
ونحن ماضون بكل إصرار في ثورتنا، وتوحيد صفنا، ومقاومة الحيل الخفية في تمزيق صف الثوار والنسيج الاجتماعي وشيطنة الثورة، والكلاكيع القانونية والفخاخ الدستورية، والأكاذيب الإعلامية، والاتهامات الشيطانية؛ لأنه في النهاية كما قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد: 17]، وقال تعالى في نهاية سورة شيَّبت النبي صلى الله عليه وسلم وهي سورة هود: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 123].
ولا يدري إلا الله؛ فلعل السحر ينقلب على الساحر، ويكون حكم القضاء في الدستورية هو الضربة القاضية عليهم، لا على الثورة والثوار والشهداء والجرحى الذين عاهدوا الله أن يحرروا مصر من نظام مبارك كله مهما كلفهم من تضحيات، والعبرة بمن يضحك آخرًا أو في الآخرة.
أخشى أن يأتي هؤلاء جميعًا يصرخون: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 27- 29]، فيُجابون (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30- 32].
يا رب، إنا بمصر نشكو إليك مجلسنا العسكري ومجلس الوزراء وقضاة الدستورية، والله وحده عليه التكلان، وهو ولي الصالحين ومخزي الظالمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة