عالم الجيولوجيا والداعية الإسلامي الكبير د. زغلول النجار رحلة الإيمان في معارج القرآن
في زمنٍ غلبَ فيه صخبُ المادّة على همسِ الإيمان، وارتفعَ فيه منسوبُ الغفلة عن بديعِ صُنع الرحمن، بزغ نجمٌ فريدٌ مِن فَلَكِ العلماء، امتاز بأسلوبِه البليغ، الذي أيقظ العقول وحرّك العاطفة.
جمع بين دقّةِ التحليل العِلمي ورهافة الحسِّ القرآني، وجعل من العلوم المادية سُلَّمًا إلى اليقين، ومن الإعجاز العلمي في القرآن سراجًا يستضيء به العقل والوجدان، فسخّر حياته في خدمة القرآن وبيان إعجازه، وربط السُّنن الكونية بالتوجيهات الإيمانية، فكان آيةً في ذاته، يحدّثك عن الذرّة كأنها نبتةٌ من جِنان المعرفة، ويقرأ في المجرَّة توقيعَ الخالق العظيم، إنّه الدكتور زغلول النجار رحمه الله.
شذراتٌ من حياته
وُلد زغلول راغب محمد النجار في قرية بسيون من محافظة الغربية بمصر عام 1933م، في بيتٍ متدينٍ أصيل، تشرَّب فيه منذ نعومة أظفاره حبَّ القرآن.
أتمّ حفظَ كتاب الله وهو لم يتجاوز التاسعة من عمرِه، وكان من الأوائل في دراستِه حتى التحق بكلية العلوم بجامعة القاهرة، فتخرّج منها عام 1955م بمرتبة الشرف الأولى في قسم الجيولوجيا.
نال الدكتوراه في الجيولوجيا من (جامعة ويلز) البريطانية عام 1963م، وكانت أطروحته من أوائل البحوث التي تناولت جيولوجية المنطقة العربية بِلُغة علمية حديثة.
درَّس في جامعات عدّة حول العالم، منها جامعات: كارديف، وبيرث، والملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة قطر، وجامعة الملك عبد العزيز، وجامعة عين شمس.
كان عضوًا في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ورئيسًا للجنة الإعجاز العلمي في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، ورئيس تحرير مجلة "الإعجاز العلمي" التي كانت تصدر عن رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرَّمة.
مواقفُ له لا تُنسى
من المواقف التي لا تُنسى في حياة الدكتور زغلول النجار رحمه الله، وهي تكشف عن شخصيته العلمية والإيمانية:
موقفه من تفجيرات لندن 2005م
لبّى وفد من علماء الأزهر ومعهم الدكتور زغلول النجار دعوةَ وزارة الخارجية البريطانية عقب تفجيرات 2005م التي أسفرت عن مقتل 52 شخصًا وإصابة ما يقرب من 700 آخرين، وأخذ المشايخ يتحدثون عن الرحمة في الإسلام وأنه بريء من الإرهاب والخراب والدمار، ثمّ لما جاء دور الدكتور زغلول النجار كان من جملة حديثه الصريح والصادق:
"من حيث إنَّ الإسلام دين لا يدعو إلى أذى الآمنين وترويع المطمئنين فأنا مع إخواني العلماء الذين سبقوني.. لكن أوجِّه أسئلة للمسؤول البريطاني: من الذي ابتدأ الآخر بالعدوان؟
أليست جيوش بريطانيا هي التي احتلت فلسطين وسلَّمتها لغير أصحابها الذين نكّلوا بأهلها وما زالوا إلى اليوم؟
أليست جيوشكم وجيوش الغرب هي التي قتلت مئات الألوف في العراق وأفغانستان وغيرهم من المسالمين في إفريقيا وآسيا؟
ألسنا نعاني وما زلنا جرَّاء حروبكم التي لا تتوقف على بلادنا تاركين وراءكم بلادًا خَرِبة وأرواحًا بريئة أُزهقت؟
فمن الذي يستحق أن يلوم الآخر ويعتب عليه؟"
سادت لحظة من الصمت، تكلم بعدها المسؤول البريطاني قائلًا: ليت الجميع يتكلم بنفس صدقك ولغتك!! وعندما أحتاجُ للحديث مع أحد سأطلب أن يكون معك أو مع أمثالك. رغم أن كلامك أكثر إيجاعا، لكنه أصدق لهجة.
هذه الحادثة سمعها من فمه الداعية الشيخ حسن قاطرجي رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي عندما استضافته الجمعية في لبنان ضمن برنامج فعاليات دعوية وإيمانية_ كونيّة صيف 2018م.
وقد نقل هذا الموقف أيضًا الداعية المصري خالد حمدي عمن كان في الوفد، وعقّب قائلًا: " انتهت الزيارة ووصلت الرسالة لأصحابها، لكن الرسالة الأبلغ في القصة هي أننا نحتاج لخطاب العزة لا الضعف والهزيمة.."
موقفه في رفض التكريم من جهة إعلامية مشبوهة:
ذكر في حديثه لقناة الجزيرة في حلقة (العلم والإيمان بين الشرق والغرب) أنّه عُرض عليه ذات مرة أن يتسلم جائزة باسم "العالم العربي المتنور" من مؤسسة ذات توجهات علمانية، فرفض وقال: "أنا أقبل التكريم من أمّتي لا ممن يحارب دينَها!"
وهو موقف يدلُّ على غَيرته على الإسلام واستعلائه الإيماني ووضوح موقفه المبدئي.
موقفه في الدفاع عن القرآن أمام العلماء الغربيين:
خلال إحدى الندوات العلمية في جامعة كارديف البريطانية، عرض أحد العلماء الغربيين نظريات في أصل الكون والحياة، فوقف الدكتور زغلول بثباتٍ وقال:
"كلُّ ما ذكرتموه في عِلمكم اليوم قد أشار إليه القرآن الكريم قبل أكثر من ألفٍ وأربعمئة سنة، في آياتٍ دقيقة المعنى، مُحكمة البيان."
فطلبوا منه الأمثلة، فذكر آيات عن نشأة الكون، والجبال، والماء، والجنين... مما أدهش الحضور، وكان لذلك الموقف أثر بالغ في نفوسهم، وبعضهم أسلَم بعدها!
موقفه في ندوة في الأمم المتحدة عن الإعجاز العلمي:
حين طُلب منه التحدث عن علاقة العِلم بالدين في ندوة عالمية أُقيمت في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك حول الدين والعلم، تحدث بثقة عن انسجام العلم الصحيح مع الوحي، وصرّح قائلًا: "القرآن كتاب هداية، لكنه لا يمكن أن يتعارض مع حقيقة علمية قط، لأن المُنزِّلَ هو خالق الكون ذاته."
فصفّق له الحضور طويلًا مُعجبين بتألُّقه في المعرفة الكونية في موقفٍ يعدُّ من المواقف المضيئة في الدعوة إلى الله عبر المنابر الدولية.
موقفه في مرضه الأخير:
كان يقول لمن يزوره: "الحمد لله الذي أكرمني بأن أموتَ على ما عشتُ له: خدمة هذا الدين، وإظهار إعجاز كلام رب العالمين."
وكان دائم الذكر راضيًا محتسبًا، حتى وافته المنية عن عُمْر 92 عامًا وهو يوصي بالثبات على العلم والإيمان.
من أقوال العلماء فيه
قال الشيخ المفسّر محمد متولي الشعراوي رحمه الله وقد التقى به: " إن الدكتور زغلول النجار من الذين أراهم الله بعضَ آياته في خَلقه، فجعلوه سببًا في بيان عظمة الخالق."
وقال عنه الشيخ العلّامة يوسف القرضاوي رحمه الله: "زغلول النجار من العلماء الذين جمعوا بين علوم الأرض وعلوم السماء، فصار علَمًا في الإيمان والعلم معًا."
وقال عنه رفيقه الصيدلي والداعية الكبير عبد المجيد الزنداني رحمه الله: "من أبرز العلماء الذين خدموا قضية الإعجاز العلمي بعمقٍ تخصصيّ وأكاديميّ رصين."
وقال عنه الشيخ عبد الرحمن السُّمَيط رحمه الله: "إنّه من المخلصين الذين بذلوا عمرهم في خدمة الإسلام بالعلم والدعوة"
وقال عنه الداعية الجماهيري الموهوب الدكتور محمد راتب النابلسي: "الدكتور زغلول النجار ممن يربطون العقل البشريِّ بالآيات الكونية في كتاب الله ربطًا علميًا راقيًا "
وقال عنه المتخصص في علوم الزراعة الداعية الكبير الدكتور عمر عبد الكافي وهو يستعيد ذكرياته مع الدكتور زغلول النجار في حديث عبر شاشة الجزيرة مباشر: " إنه إسلامٌ يمشي على قدمين... عاش عُمُرَه في خدمة الدعوة والعلم، لا يتحدث إلا عن الإسلام وهموم الأمة"
مصنّفاته
ترك الدكتور زغلول النجار إرثًا علميًّا واسعًا ومؤلفاتٍ قيّمة، بلغت أكثر من 150 بحثًا علميًا محكَّمًا، وأكثر من 40 كتابًا، جمع فيها بين دقّة الجيولوجي وعُمق المفسّر. ومن أبرز مؤلفاته:
• موسوعة آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (خمسة أجزاء): موسوعة ضخمة يتناول أكثر من ألف آية قرآنية يَربط فيها بين النصوص الكونية أو الطبيعية والاكتشافات العلمية الحديثة، مثل السماء والأرض والمياه والنبات والحيوان. تهدف إلى إظهار أن القرآن الكريم سبق الاكتشافات العلمية في مجالات مثل الجيولوجيا، الفلك، علم الأرض، الحياة. تُعد من أبرز أعماله في مجال (الإعجاز العلميِّ).
• الإعجاز العلمي في السُّنَّة النبوية: يتناول الكتاب أو الكتب التي نشرها تحت هذا العنوان الحديث النبوي، من وجهة نظر الإعجاز العلميّ. يدور حول أن السنة النبوية كذلك تحتوي على إشارات علمية تتقدم بعض الاكتشافات. يبدأ بتعريف الإعجاز العلمي، ثم يتناول أحاديث وسُنن نبويّة يربطها بالاكتشافات العلمية الحديثة، مستخدمًا منهجًا يجمع بين النصّ الشرعي والبيانات العلمية.
• سرُّ الليل والنهار: هذا الكتاب يدخل ضمن سلسلة "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" يعالج ظاهرة تعاقب الليل والنهار من منظور علمي وربطها بآيات قرآنية. ويوضح أن تعاقب الليل والنهار ليس مجرد ظاهرة زمنية، بل يحمل دلالات في القرآن عن الإبداع الإلهي والتوازن الكوني. ثمّ يعرض حقائق جيولوجية وفلكية من مثل حركة الأرض حول محورها، واختلاف طول النهار والليل حسب الميل والمحور، ويربطها بآيات مثل: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: 12]. وما يميّز هذا الكتاب هو أنّه وقفة تدبّر في الكون بأكمله من منظور قرآني علمي، مع عرض الفكرة بسهولة.
• الإعجاز العلمي في القرآن الكريم... رؤى وتأملات: موسوعة في تفسير الظواهر الكونية على ضوء القرآن، تناول فيها الأرض والسماء والجبال والبحار والنبات والحيوان. تُعدّ من أوائل المؤلفات التي أرست دعائم منهج علميّ دقيق في دراسة الإعجاز.
• الإسلام والعلم بين النظريات والتطبيقات: يبحث الدكتور زغلول النجار في هذا الكتاب العلاقة بين الإسلام المنهج الشامل للحياة والعلم التجريبي الحديث، محاولًا إزالة الفجوة المفتعلة بين الدين والعلم التي ظهرت في الفكر الغربي ثم انتقلت إلى العالم الإسلامي.
• الحضارة الإسلامية وأثرها في النهضة المعاصرة: عَمَلٌ يُشار إليه ضمن أعماله التي تتناول (معالجة فكرية حضارية) للعالم الإسلامي. يناقش فيه كيف أثّرت الحضارة الإسلاميةُ في النهضة المعاصرة، وما الدروس التي يمكن استخلاصها اليوم، ويربط بين حضارة المسلمين والمستقبل العلمي والتكنولوجي والحضاري.
• قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر: يأتي ضمن الكتب التي عالج فيها النجار قضايا الفكر الحضاري، والعلاقة بين العلم والدين، ومسار التخلف العلمي في المجتمعات الإسلامية. بدأ فيه بتحليل جذور التخلف العلمي في العالم الإسلامي، وحلَّل أسباب تخلُّف العالم الإسلامي في مجالات العلم والتقنية، وركّز على الفجوة بين دول العالم الإسلامي والدول المتقدمة من حيث العلم والتكنولوجيا، وقدّم مقترحات للحلّ.
• الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم: من الأعمال التي تناولت الإنسان في القرآن الكريم من مرحلة الخلق أو النشأة إلى البعث، لكنها تحمل بُعدًا تأمُّليًا وتفسيريًا أكثر من كونها بحثًا جيولوجيًا بحتًا. عالج الدكتور فيه المسارات الإنسانية والقرآنية المتعلقة بالإنسان: الخلق، التكوين، الحياة، الموت، البعث، من منظور قرآني واقعي، وربط بين النص القرآني وتجربة الإنسان الكلية.
• قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وضوابط التعامل معه: كتاب حدَّد فيه المؤلف ضوابط ومنهجية للتعامل مع ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن، وناقش فيه كيف نفهم الإعجاز العلمي. وأسهم في هذا الكتاب في تأصيل المنهج العلمي عند ربط النصوص القرآنية بالعلم.
• الأرض في القرآن الكريم: دراسة جيولوجية قرآنية، شرح فيها مراحل خلق الأرض وتكوين القارَّات والجبال في ضوء النصوص القرآنية.
• الجبال في القرآن الكريم: من أشهر كتبه، حلّل فيه الآيات التي تتحدث عن الجبال بوصفها "أوتادًا"، وبيّن وجه الإعجاز العلمي في تثبيت القشرة الأرضية.
• حديث الأرض: كتاب في الجيولوجيا بلغة أدبية راقية، يعرّف القارئ بأسرار الصخور والبراكين والزلازل، بروحٍ إيمانية تأملية.
• رحلة الإيمان مع الكون: كتاب تأمليّ يجمع بين الفلسفة الطبيعية والعقيدة، قدّم الدكتور زغلول فيه الكون كمرآةٍ تعكس أسماء الله وصفاته.
• السماء في القرآن الكريم: بحث دقيق في الفلك الكوني، تناول فيه طبقات السماء، ونظام الكون، والإشارات القرآنية التي توافق النظريات العلمية.
• سنن الله في الآفاق والأنفس: هو كتاب يربط السنن الكونية بالسنن الإيمانية، ويبيّن كيف أن الكون كتابٌ مفتوحٌ يقرأه المؤمن بعين القلب والعلم.
• في نور القرآن الكريم: هذا الكتاب عبارة عن تأمّلات في آيات مختلفة من القرآن الكريم، ليس فقط من منظور الإعجاز العلمي، بل أيضًا من منظور روحي وتأمّلي.
• الماء سرُّ الحياة: تأمل علمي في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، مع عرضٍ لأسرار دورة الماء في الطبيعة.
• هكذا تعرَّفت على الله: من المؤلفات التي تُعنى بالجانب الشخصي التأملي والعقائدي للمخلوق مع الخالق بالوسائل العلمية، ارتكز على تجربة المؤلف الشخصية.
أخيرًا
لم تكن حياتُه مجرد سيرة عالمٍ درس الصخور والنجوم، بل هي قصة عقلٍ أضاءه القرآن، وقلبٍ ذاب حُبًّا في الإيمان. تدبّر النصَّ القرآنيّ والنصَّ النبويّ فجمع بين التحليل العلمي والتأمل الروحي، فصار رمزًا للعلم المقرون باليقين.
رحل الدكتور زغلول النجار طاهرَ السيرة، نقيّ السريرة والله حسيبه. ولئن غاب الجسد فإن صدى صوته ما زال يتردّد: "اقرؤوا كتاب الله بِعين العلم، فإنَّكم سترون فيه أسرار الوجود، وأدلّة الخالق المعبود."
رحمَه الله رحمةً واسعة، وجعل علمَه صدقة جارية إلى يوم يبعثون.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




عالم الجيولوجيا والداعية الإسلامي الكبير د. زغلول النجار رحلة الإيمان في معارج القرآن
أدب الحوار والجوار.. بين لغة العقل وهشيم النار
حين يكون الصدق قيمة عُليا
التربية على القيم الإسلامية في زمن الانفتاح
ابتسامة.. تبدِّدُ وَجَع الفَقد