حكم سفر المرأة من غير محرم أو زوج
لا شك بأن المرأة تعرض لها حاجاتٌ متنوّعة تحتاج للحصول عليها إلى السفر. وهذا أمر طبيعيّ لا غبار عليه. وفي الأصل يعتبر الإسلام سفر الإنسان لقضاء حوائجه أو للسياحة في الأرض من الأمور المشروعة ومما تقتضيه منهجيّته السَمحة في توسيع دائرة حرية الإنسان الشخصية فيما لا مجاوزة فيه للشرع ولا تعدِي فيه على الآخرين. ولكن باعتبار أن للمرأة- في بعض شؤونها- أحكاماً خاصة في الشريعة وذلك من أجل المحافظة عليها وعلى كرامتها وعرضها وعفافها وأمنها ووظيفتها:
جاء السؤال عن حكم سفر المرأة من غير محرم أو زوج، خاصةً وأن الناس تتجاذبهم- في هذه المسألة وكثير غيرها- فتاوى شتّى من هنا وهناك، وكثير منها- للأسف الشديد- صادرٌ عن غير متأهِلين للفتوى أو على الأقل لنقل الفتوى من كتب العلم، وذلك بسبب تحكّم الأهواء والمصالح، أو بسبب الجهل وقلة المعرفة بأقوال أهل العلم المستفادة من الأدلة الشرعية، أو بسبب الرغبة في تطويع الأحكام الشرعية لتتماشى مع الأعراف والتقاليد وأساليب الحياة التي فرضتها الحضارة المادية المتفلِتة من قيود الدين والأخلاق.
والمسلمة- كشأن كل مسلم صادق- لا تقدم على أيّ عمل إلاّ بعد معرفة حكم الله ورسوله فيه عن طريق سؤال أهل العلم وأئمة الدين. فإذا ما عرفت الحكم فلا جدال ولا اعتراض، ولا مراوغة ولا تحايل. وكل ذلك مقتضى الإيمان بالله ورسوله، ومقتضى الثقة بدينه والاستسلام لأحكامه.
وحتى إذا ما عصت فهي تعترف بمعصيتها وتستغفر الله تعالى ولكنها لا تتلمّس التأويلات لمعصيتها ولا تحاول التمعقل والتفلسف على النصوص والأحكام الشرعية لئلا ترتكب خطأً آخر بالإضافة إلى خطأ معصيتها لأنّ ذلك الخطأ- حينئذﹴ- أكبر من خط المعصية وهذا يلاحظ في بعض القضايا مثل: السفور، الخروج بالزينة، عدم إطالة الجلباب إلى القدمين، الاختلاط، المزاح مع الرجال، العمل في البنوك، نمص شعر الوجه أو الحاجبين، كشف العورة على طبيب رجل مع وجود طبيبة، الموسيقى والرقص الخليع في الأعراس... ومنها (سفر المرأة من غير محرم أو زوج) موضوع هذه الفتوى والذي سنحاول بعون الله تعالى بيان حكمه الشرعي في ضوء كلام أهل العلم الثقات، ثم سرد الأحاديث النبوية الصحيحة الصادرة عن الصادق المصدوق، والرؤوف بنساء الأمة صلى الله عليه وسلم المعصوم، والتي هي الدليل الذي اعتمدوا عليه.
أما الحكم فملخّصه أن سفر المرأة إلى مكان يبعد عن موطنها مسافة القصر (أي المسافة التي تقصر فيها الصلاة وهي 81 كلم) أو أكثر: حرامٌ إن سافرت دون مرافقة زوجها أو محرم (وهو كل من يحرم عليه الزواج منها على التأبيد: بالنَسب كالأخ أو بالمصاهرة كوالد الزوج أو بالرَضاعة كأخيها في الرضاعة).
أما ما دون مسافة القصر فالضابط أنّ ما يعتبر في عرف الناس وتسميتهم سفراً يحرم عليها أيضاً السفر دون محرم أو زوج، وإلاّ فلا يحرم كالانتقال من بيروت إلى خلدة أو عرمون أو صيداً مثلاً وبالعكس. هذا ما رجّحه الأئمة ابن حبّان والبيهقيّ وابن حزم والبغويّ والنووي والعلاّمة ابن قدامة الحنبلي والحافظ ابن حجر.
وينبغي التنبيه هنا إلى الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس في فهم تعبير الفقهاء "مسيرة يوم" أو يومين أو أكثر: من أنه ما كان يستغرق تلك المدة الزمنية في السفر للوصول إليه، إذ العبرة بالمسافة بغضّ النظر عن الزمن الذي تحتاجه وسيلة الركوب لقطعها، وإلا لاختلفت الأحكام من إنسان لآخر بحسب مركوبه، وكذلك لكان السفر من لبنان إلى إيطاليا بالطائرة مثلاً لا يعدّ سفراً- على حسب فهمهم- إذ أنه لا يستغرق سوى بضع ساعات. فالمسافة- إذن- هي المعتبرة في التحديد الفقهي لا المدة الزمنية التي كانت بحسب مسير الإبل فيما مضى من الزمن. وكذلك مسافة الواحد والثمانين كلم- بالنسبة لمسافة القصر- هي المعتبرة في التحديد الفقهي (والذي ترتبط به جملة من الرخص الشرعية كالقصر والجمع والإفطار في رمضان وعدم وجوب صلاة الجمعة).
وأما أدلة عدم الجواز فليست في القرآن الكريم لأنه لم يتعرّض للمسألة ولكن فيه ﴿ومن يطع الرسول فقد أطاع الله﴾، وفيه ﴿فلا وربِك لا يؤمنون حتى يحكِموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِموا تسليماً﴾، ولذلك ننتقل إلى السُنّة.
ونلاحظ- ابتداءً- أن الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشترك في نهي المرأة عن السفر من غير صحبة زوجها أو ذي محرمﹴ لها، ولكنها تختلف في تحديد المدة الزمنية للسفر المنهيّ عنه. سنوردها- بتوفيق الله تعالى- ثم نبيّن طريقة الجمع بينها لئلا يتوهَم تعارضها وتضاربها:
1- على رأس هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم". فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحجَ؟ فقال له عليه الصلاة والسلام آمراً:"اخرج معها". وهذا الحديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم. ويلاحظ فيه صيغة النهي عن سفرها إلا بالشرط المذكور، والنهي يفيد في الأصل التحريم، وهو ما جاء مصرَحاً به في حديث- يستوقف كلَ مؤمنةﹴ صادقة- رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر... إلا ومعها ذو محرم"، وفي رواية لابن حبّان في صحيحه:"لا يحل لامرأة تسافر إلا مع ذي محرم". ويلاحظ فيه ثانياً عدم تقييد السفر بمسافة معيَنة أو وقت معيَن وهو مذهب الجمهور- كما ذكرنا- وهو أن كلَ ما يسمَى في عرف الناس سفراً ينطبق عليه الحكم، فضلاً عن سفر مسافة القصر ولو أنه لا يسمّيه الناس سفراً لأنه سفر في حكم الشرع، ولذلك عنون له ابن حبّان في صحيحه- وقد أخرجه-: (ذكر الزَجر عن أن تسافر المرأة سفراً قلّت مدّته أو كثرت من غير ذي محرم يكون معها). ويلاحظ فيه ثالثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الرجل من الخروج إلى الجهاد- ومنزلته معروفة في الإسلام، وأجره وفضله لا يخفيان، وحكمه إما واجب على الكفاية أو على الأعيان- وذلك ليرافق زوجته في سفرها إلى الحجّ.
2- أما بقيّة الأحاديث فهي مشتركة مع حديث ابن عباس في النهي ولكن تختلف عنه في تقييد السفر، ففي حديث ابن عمر في الصحيحين وحديث أبي هريرة في صحيح مسلم: تقييد السفر المنهيِ عنه بثلاثة أيام، وفي حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم: تقييده بما فوق ثلاث ليالﹴ، وفي حديثه أيضاً في صحيح مسلم من طريق أخرى: تقييده بمسيرة يومين، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين: تقييده بمسيرة يوم وليلة، بل في حديث أبي هريرة في سنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة: تقييده بمسافة بريد (أي حوالي 30 كلم).
3- وقد جمع أهل العلم بين تلك الأحاديث بأن حديث ابن عباس مطلق- ومثله ما ورد في بعض طرق حديث أبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري- والتقييدات المذكورة في بقية الأحاديث تندرج تحت حديثه فهو المحتوي على جميعها والجامع لها كلها، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن سفر المرأة ثلاثاً بغير محرم فمنع، وعن سفرها يومين فمنع... وهكذا كان كلما سئل عن أيِ سفر للمرأة من دون محرم أو زوج ينهي عنه، فجاءت الروايات المطلقة معبِرة عن حالات خاصة. وبذلك يتبيَن عدم التعارض بين الأحاديث. وهذا رأي الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: 2/484، والحافظ ابن حجر في شرح صحيح البخاري: 4/75 وبيَن أنه عليه عمل أكثر العلماء، والعلاّمة ابن حزم في "المحلّى": 5/13، وهو رأي ابن حبان وابن خزيمة والبيهقي، وكلهم من كبار الفقهاء المحدِثين. وهو مذهب الشافعية والحنابلة والمالكية.
أما مذهب الأحناف فقد استحسن العلاّمة ابن عابدين للفتوى- كما في حاشيته 3/145- أنه يحرم سفرها وحدها مسيرة يوم- أي حوالي 30 كلم- وإن كان الأصل في المذهب حرمة سفر المرأة من دون زوج أو محرم مسافة القصر عملاً برواية واحدة من روايات الحديث وهي المقيِدة للسفر بمسيرة ثلاثة أيام. ومن أراد الاطّلاع على أدلة مذهب السادة الأحناف وسبب ترجيحهم لرواية واحدة وعملهم بها دون غيرها فليرجع إلى شرح صحيح البخاري للإمام بدر الدين العيني الحنفي: 7/127، أو كتاب "إعلاء السنن" للتَهانوي.
ويجدر التنبيه إلى أن الفقهاء مختلفون فقط في جواز سفر المرأة من دون زوج أو محرم لأداء فريضة الحجّ، وهذه حالة خاصّة تستثنى مما تقدّم معنا.
وفي الختام أنقل كلمة للشيخ وهبي سليمان غاوجي من كتابه "الصلاة": (أرأيت كيف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل أن يدع الجهاد في سبيل الله تعالى حتى يكون مع امرأته؟! إنّ حفظ الأعراض مقدمٌ على الجهاد جهاد الكفاية! فما بال آباء مسلمين يأذنون لنسائهم وبناتهم بالسفر دون محرم، بقصد رحلة أو زيارة أهل أو طلب شهادة عن طريق العلم؟! ألا إنهم آثمون ومجازون. ليس إليهم تقدير المصلحة. إنّ الدين كلَه لله، والمصلحة هي في تطبيق أمر الله تعالى على كل حال).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا