وبشّر الصابرين
الصبر زاد الطريق، طريق الحياة الشائك، المفروش بالعقبات والمصاعب؛ إنه الدواء الناجع والعلاج النافع في تخفيف البلايا والمصائب. والمؤمن بالله تعالى يرى المحنة منحة، والبلاء هدية، فيصبر ويحتسب، مستسلماً لله، راضياً بحكمه، ممتثلاً لقضائه، مترفعاً على ألمه، مستعلياً على شكواه إلا إلى خالقه، فهو كالذهب لا تزيده المحن والفتن إلا صبراً وثباتاً، وقوة وعزيمة، لا تُفزعه شدّة ولا تزلزله مصيبة، يعرف حقيقة دنياه فيُوَطِّن نفسه على مواجهة أعبائها وأثقالها، مستيقناً بالله متفائلاً بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن مع العسر يسراً ومع الصبر فرجاً.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
والصبر كما عرّفه ابن القيم (رحمه الله): «هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي»... وقال الحسن (رحمه الله): «الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده».
والصبر صفة الله عز وجل، لا يعاجل عباده العصاة بالانتقام والعقاب. كما أنه خُلُق الأنبياء والمرسلين، وحلية الأصفياء المتقين. قال تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة وَسَلَاماً)، فهذا النبي أيوب عليه السلام يصيبه الضُّرُّ في البدن وفقدان الأهل، ومع ذلك يصبر ويحتســب ويثنـي عليــه تعــالى بقولـــه: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، وهذا نبيُّ الله يعقوب عليه السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه، والصبر على ما يلقاه، ابتلي بفقد ابنه يوسف ومن بعده شقيقه الأصغر، فيصبر صبر المتفائل أملاً ورجاء، لم يتسرّب اليأس إلى قلبه، ولا سرى القنوط في عروقه، بل قال: (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)، فحقّق الله رجاءه وردَّ له بصره وولديه.
كذلك صبر يوسف عليه السلام على سلسلة متلاحقة من المحن والابتلاءات، كان لا يخرج من محنة إلا ويدخل في أخرى، تآمر عليه إخوته وألقوه في غياهب الجب، وبيع في سوق الرقيق بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، ثم ابتلي بامرأة العزيزة وكيدها العظيم، وهو العفيف المحصن، ورغم ظهور براءته أُدخل السجن سنين عديدة، فما انفكّ يوسف عليه السلام قوي الإيمان، طاهر القلب، عظيم الصبر، حتى جاء فرج الله، ومنّ الله عليه فجعله على خزائن الأرض (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
أما سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فهو سيد الصابرين، لاقى في سبيل دعوته الأذى الكثير من عبّاد الأوثان، وطواغيت الشرك، صبر ممتثلاً لقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله)،(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)، فكان عليه الصلاة والسلام حريصاً على هداية قومه رغم بطشهم وإيذائهم وكان يدعو ربَّه أن يشرح صدورهم للإسلام قائلاً: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً».
كان أُسوة لأصحابه.. ربَّاهم على الصبر الممزوج بالتفاؤل والأمل في أخطر المواقف وأحلك الأزمات. فهذا الصحابيّ الجليل خباب بن الأرث يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشتكياً بعد أن صبّت قريش جام غضبها وقسوتها وأذاها على المؤمنين، ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام رغم الخطب الفادح والكرب القادح كان يشدّ من عزيمتهم ويحفزّهم على الصبر فيقول: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون» سنن أبي داود.
ويمضي خباب والثلّة المؤمنة وقد سمعوا هذا التثبيت من النبي عليه الصلاة والسلام، المبشِّر في موضع الخوف، وباسط الأمل في موضع اليأس، يمضون بأمل تغزّزه الثقة بالله، ويقين راسخ بوعد الله ونصره.
رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطي أمّته كلها دروساً في الصبر، ويبين أنه كلما اشتَّد البلاء عظم الجزاء فيقول: «إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» رواه الترمذي.
ويقول عليه الصلاة والسلام أيضاً: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» رواه الترمذي.
فالمصيبة مهما عظم أمرها، أو صغر قدرها، فإن الله جعلها سبباً لتطهير المؤمن وتكفير سيئاته؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه».
يا لها من بُشريات قد جمعها الله للصابرين مما لم يجمع لغيرهم من أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم.
والصابرون في معيّة الله عزّ وجل، فما أحلاها من معية، إنها معيّة الحفظ والتأييد، معيّة الرفق والبركة والرحمة: (واصبروا إن الله مع الصابرين).
والصابرون محبوبون من الله تعالى: (والله يحب الصابرين).
والصابرون مكرّمون من الله عزّ وجل بإدخال الملائكة والسلام عليهم في الجنة وتهنئتهم بكرامة الله لهم، قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
والصابرون يُوَفَّون أجورهم من الله بغير حساب: (إنما يُوَفّى الصابرون أجرهم بغير حساب).
فهل بعد ذلك مَن يسخط ويجزع ولا يصبر ولا يحتسب بعد أن يرى هذه النِّعم الجزيلة، والعطايا الكريمة ممن لا تنفد خزائنه في الأرض ولا في السماء؟!
فهنيئاً لكم يا أهل الصبر بصبركم، وهنيئاً لكم بما بشّركم ربكم (وبشّر الصابرين).
أختي المسلمة: ليكن الصبر زادنا في جميع أمورنا وأحوالنا، وليكن سراجاً يضيء لنا دروب حياتنا ونوراً يبدد ظلمات محننا، ورفيقاً مؤنساً في غربة زماننا.
لنصبر على البأساء والضراء ولْنَتّقِ إله الأرض والسماء لنكونَ من السعداء في دار البقاء... لنحسن الظن بالله؛ فهو سبحانه يكشف الضُرَّ ويجعل بعد العسر يسراً وبعد الضيق سَعة وبعد الحزن سروراً.
ورحم الله من قال:
يا صاحبَ الهمِّ إن الهمِّ منفرجٌ * أبشِــــرْ بخيــــر فـــإنّ الفــــارجَ اللهُ
إذا بُليــتَ فَثِـــقْ بالله وارْضَ بـــه * إن الذي يكشِف البلوى هـــو اللهُ
واللهِ مـا لكَ غيرُ اللهِ من أحدٍ * فحسبُك الله، في كلٍ لك اللهُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن