حوار مع د. عبد الرحمن الذاكر
الإنسان... ذلك المعادلة الصعبة التي لم تُفكّ رموزها حتى الآن... ذلك الإعجاز الإلهي المتمثل بمادة وروح تجمعهما نفس، أوجده الله على هيئة وظروف تمكّنه من الحياة على هذه الأرض وعمارتها كما شاء سبحانه: كيف يعتني الإنسان بكيانه؟ كيف يعرف حدود نفسه وحاجاتها وعلاقاتها المختلفة؟ ثم كيف يبني صلته بخالقه تلك التي ستحكم طبيعة علاقته بنفسه وبالآخرين؟ ثم كيف يُقيم التوازن بين هذه الأبعاد المختلفة ليحقق لنفسه سعادة الداريْن؟
ضيفنا الطبيب والاستشاري في العلاج النفسي والتربوي د. عبد الرحمن ذاكر سيجيبنا عن هذه التساؤلات في هذا الحوار.
- ولد في الموصل، في كانون الثاني 1974، لأب عراقي وأم لبنانية طرابلسية. متزوج وله ابنتان.
- درس في الأردنّ الطب والجراحة العامة وعلم النفس العام، ثم علم النفس العيادي والتربوي؛ وتخرج عام 2000.
- حصل من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 2002 على التخصص العالي في العلاج النفسي.
- سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأغراض الدراسة والبحث والتخصص من العام 2007 وحتى العام 2011.
- عمل ما بين الأردن والولايات المتحدة الأمريكية، حيث قدّم اللقاءات والحلقات النقاشية والتدريبية والاستشارات النفسية والأسرية والتربوية...
- له العديد من المؤلفات في «فن الحياة»، و«طب النفس القرآني»، و«فقه النفس والمجتمع»، وغيرها...
------
1. «منبر الداعيات»: دورات التنمية البشرية: ما الإضافة التي تضيفها على المتلقي؟
- التنمية البشرية أصبحت موضة، ولأن العصر الآن عصر سرعة، والإعلام يلعب دوره في ذلك، فقد أصبحت التنمية البشرية ودوراتها هي البديل للحلقات والدروس، وكذلك للأمور التي لا تكمِّلها وزارة التربية والتعليم – للأسف - أو أحياناً لا تقدِّمها أصلاً، فنعم هي أصبحت بديلاً لا بد منه! يبقى: إلى أيِّ درجة يُعتَبَرُ ما يُطرح بها له صفة علمية علميّاً؟ ولأيِّ درجة يتمتع بالأهلية مَن يدير مثل هذه الدورات؟ أنا شخصياً أنزعج منها، وأقول دائماً: يا ترى أنا الذي أمامكم، مَن هي اللجنة الفاحصة التي امتحنتني وأجازتني في إعطاء الدورات؟ لا يوجد.
أتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي يكون عندنا فيه مؤسسة تقرر: مَن له الأهلية لإعطاء هذه الدورات ومن لا يملكها.
2. « منبر الداعيات»: التنقل بين البلدان والتعرف على ثقافات وأنماط حياة مختلفة، ماذا أضفى على علوم عبد الرحمن ذاكر... وعلى شخصيته... ثم على تعامله مع الآخر؟
- أكثر شيء أدّعي أنّ التنقل أضافه لي: التقبُّل؛ أن أقبل الآخر... مبدأ الاختلاف... مبدأ فَهم الناس كما هم، مبدأ إضافة كمية كبيرة من الملفات حول البشر وأنماطهم في «المستودع»، ما يساعد رجلاً مثلي طبيباً يتعامل مع النفس البشرية واستشاري أُسري... في تنقلاتي، جربت مادتي وامتحنتها: إلى أيِّ درجة هي فعلاً مقبولة على الأرض؟ ولذلك كان من الأشياء التي أمتعتني جداً في رحلة أميركا، وخلال السنوات التي أمضيتُها هناك: تقبُّل المجتمع الغربي والجمهور الأمريكي اللاديني للمادة رغم أن منطلقاتها شرعية.
3. «منبر الداعيات»: عدم معرفة المرء بذاته، وما يترتب عليها من انعدام القدرة على تحديد ما يريد، تكاد تكون حالة عامة في عالمنا: فما سبب انتشارها؟ وكيف السبيل للبدء بخطوات علاجية جماعية شاملة؟
- نمط التربية الذي يُعلي من شأن الآخر ويقزِّم النفس، والخطاب الديني التقليدي أيضاً ينمّي هذه السلبية، مثلاً: ينبغي أن تحترق من أجل الآخرين!
أما طرق علاجها فتتلخص في أن: نتوقف، نفكر، ونحاول الإجابة على سؤالَيْ: مَن أنا؟ ولِمَ أنا؟ والطريقة العملية المثمرة هي أن تجلس نصف ساعة أو ساعة مع نفسك (عبر مادة فقه النفس; وهي قبول النفس وتقديرها)، وتبدأ معها منذ ولدت وحتى هذه اللحظة، وتحدد: ما هي نقاط ضعفها ونقاط قوتها؟ وكيف تنطلق إلى ما بعدها؟
4. «منبر الداعيات»: وعي الإنسان بذاته يقوده إلى وعيه بمحيطه: فكيف يتوصل الإنسان إلى هذه المعرفة؟
- النفس البشرية مثل العجينة، هي مادة خام إذا فهمتَها تكون قد فهمت 60% تقريباً من العجينة الموجودة عند الآخرين، ويبقى التحدي في النكهات المختلفة بين شخص وآخر. فكلما قرأتُ نفسي أكثر كنت صادقاً أكثر، وكان فهمي للنفوس المقابِلة أعمق.
5. «منبر الداعيات»: السعادة فيض من الداخل: ما الذي يقود الإنسان إلى هذه المرتبة حتى تصبح الغالبة على حاله مهما تقلبت به الظروف؟
- ينبغي أن يُعلَم أن فقه النفس والانشغال بها يسبب السعادة، فلا ينبغي أن ينتظر المسلم أن تأتيه السعادة من الخارج، ولا أن يعلّق مفاتيح السعادة على الآخرين أو على الظروف أو الأشياء... فكلها زائلة، وبزوالها تزول سعادته.
6. «منبر الداعيات»: كثيرون يأخذون قرارات بالتغيير إلى حال أحسن من واقعهم ثم يصطدمون بعوائق مختلفة نفسية وبيئية ومعيشية: كيف السبيل إلى تحقيق التغيير رغم كل ذلك؟
- لما تكون مستأنساً بنفسك على الأقل ولا تنتظر السعادة أن تأتي من الآخرين فهذا سيعطيك الدافع، وستكون لديك مقاومة لكل العوائق. أنت تحتاج إلى الزاد، وتستطيع تحصيله من خلال محطات التزكية اليومية: خمس صلوات: ماذا تغير فيك؟ الصحبة الصالحة: كم من أناس حولك يؤمنون بما تؤمن به؟... فإذا كانت هذه العوامل موجودة فإنني أستغرب إذا لم تكن هناك سعادة، وأستغرب إذا لم يكن هناك إنجاز!
7. «منبر الداعيات»: غالباً ما تركز دورات التنمية البشرية على أهمية تقدير الإنسان نفسه وتعزيز ثقته بها: فما الحد الفاصل الذي يَحول بين المرء وتضخم الأنا عنده؟
- جميل... من أين يأتي هذا المفهوم؟ إذا أتى مفهوم تقدير النفس من الأنا، من الآخر، فإنك تكون بعيداً تماماً. أما إذا أتى من علمك بالله فإنه يعلِّمك التواضع، يعلمك أن تكون صاغراً في الحق قوياً في الباطل. إذا كان منظارك لنفسك متعلقاً بالحق وليس بالنفس عندها أنت في الطريق الصحيح.
8. «منبر الداعيات»: ما هي الخطوط العريضة التي يحتاجها المربي لغرس مفهوم معرفة النفس لدى الطفل منذ صغره؟
- ماذا نريد من أطفالنا؟ كلمتين أو تعبيرين: «التفكير بسَوية والتعبير بحرية»، ويجب أن يراهما فيك قبل أن تعلِّمه إياهما، حتى سن السابعة الوعظ التقليدي غير مطلوب، بل تأخذ وتعطي معه بالكلام المباشر، وقبل هذا يجب أن يراك وأنت تصلي وتبكي أمامه بخشوع، وأنت تعبِّر عن ضعفك وعن غضبك أحياناً؛ فعندما يتعلم منك التعبير عن نفسه، وعندما يرى أنك لا تهتم برأي الناس فيما تفعل: هذه مُدخلات تعلِّمه تقدير نفسه والتعبير عنها، وعندما تتركه على حريته سيتعلم تلقائياً.
9. «منبر الداعيات»: لماذا يهرب الإنسان من الإجابة عن الأسئلة التي تسلط الضوء على نفسه من الداخل؟
- طبيعة الإنسان وطبيعة "الأنا" لا تحب النقص ولا تحب الشعور به، بل تطلب الكمال، وأي شيء يخدش هذا الكمال ترفضه، ومن ذلك مواجهة النفس بعيوبها، وكذلك فإن الإنسان يتجنب الأشخاص الذين يذكّرونه بعيوبه، فمثلاً: لماذا يتهرب بعض الأزواج من زوجاتهم؟ لأنهم يحسنون معاملة الكل إلا زوجاتهم، فوجود مثل هؤلاء مع زوجاتهم يذكِّرهم بتقصيرهم فيتهربون. هذا طبيعي، وهو غريزة؛ وهنا يأتي التهذيب والتزكية، فالتزكية مهمتها النهوض بالنفس ورفعها إلى مكانة أعلى.
10. «منبر الداعيات»: الحكم المادي على الأمور نتاج إعاقات روحية، فما السبيل لتصحيح مسار الفكر حتى يصل إلى درجة من استقامة الروح؟
- باختصار يجب أن تعرف المصدر الذي تستقي منه هذه الأفكار، إذا كانت الأفكار تستقي حاجتها من بيئة مادية جسدية وقعت في الفخ نفسه، أما إذا كانت تستقي من مصدر يعطيها شمولية في التفكير، عندها فإن «المردّ» الذي ترجع إليه يعطيك بُعداً في التكامل بين الجسد والروح والفكر... ويعطيك حرية التعبير.
11. «منبر الداعيات»: كيف يتخلص الإنسان من آثار المدخلات المتراكمة على شخصيته والتي تؤثر على كيفية تعاطيه مع البيئة المحيطة؟
- التوقف مع النفس وتفريغها أولاً بأول يوصل لمرحلة من الاستقبال الدائم التلقائي المريح، لذا قد يستغرب الناس من أنك لم تنزعج من مواقف مزعجة، السبب أن طاقتك بسبب التفريغ المستمر قادرة على استيعاب المواقف دون أن تؤثر سلباً على مزاج الإنسان، فهناك تراكمات نفسية تُحدث تشويشاً واضطراباً، ولكن تلك الوقفات مع النفس وتفريغها أولاً بأول تسهّل عملية استقبال المدخلات وتصبح سهلة ولا تحتاج لبذل طاقة كبيرة للتكيف معها.
12. «منبر الداعيات»: كيف يستطيع الإنسان تحقيق التوازن بين ما يريده من الدنيا مما يضمن له حياة مريحة وبين متطلبات الآخرة؟
- لو فهمنا الدين بطريقة صحيحة، لو فصلنا كلمة الدين عن التفكير العلماني، لو أصبح الدين هو منهج حياة وفن حياة - كما أسميه - لو أصبح الدين فناً ليس طقوساً... تلقائياً ستكون أسعد الناس في الدنيا ومن أسعدهم في الآخرة.
ومع رجاء أن ننال سعادة الداريْن، نتمنى أن نكون قد أفدنا قراءنا الأكارم بهذا الحوار حول النفس وأبعادها وعلاقاتها، سائلين الله عز وجل أن يُجزل لضيفنا الكريم الدكتور عبد الرحمن ذاكر المثوبة وأن ينفع بما قدم، شاكرين له مشاركته.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن