متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
أمانة الوقت
"وفّر وقتك توفّر نقودك":
مقولة شهيرة في بلاد الغرب تعكس خلقاً جميلاً يسري في كيان مواطنيها، يشدّ انتباه كلّ مَن زارها أو أقام فيها. ألا وهو المحافظة على المواعيد والانضباط، مع إدراك جادّ لقيمة الوقت. وقد استطاعوا بهذا بناء حضارة مادّيّة معتبرة، تذكّرنا بقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود: 15). فالدّنيا لا تفرّق في الجزاء بين المؤمن والكافر، (فمن عمل أُجِر، ومن قعد حُرِم)، مهما كان دينه واعتقاده.
في الغرب، رغب النّاس في دنياهم، فبادروا إلى استغلال وجودهم ليحصلوا على أكبر قدر ممكن من خيراتها. فهموا أنّ الوقت رأس مال الإنسان، هو عمره، وهو الأيّام المعدودة الّتي سيقضيها على سطح الأرض، فضبطوا مواعيدهم، وقدّسوا العمل عبادة لدنياهم. فأقاموا المدن، وأسّسوا المعامل، ورفعوا المعاهد للبحوث، فطالعونا باختراعات راقية وتقدّم علميّ وتقنيّ رائعَين، أغدق علينا المرافق المريحة. ويسّر للفرد حياته اليوميّة: دقّة في تنظيم السّير في الطّرقات، وحزم جادّ في احترام ضوابط إشارات المرور، درجة متناهية في الالتزام بأوقات العمل المحدّدة في الإدارات، وضبط محكم وحازم لكيفيّة العمل فيها..
ضياع قيمة الوقت و مفهوم العمل في بلاد العرب:
وعلى النّقيض من ذلك، نلمس بوضوح ضياع مفهوم الأمانة والعهد وقيمة الوقت في البلاد العربيّة؛ ترى الموظّف الّذي يعمل السّابعة صباحاً، يصل إلى عمله الثّامنة، ويتغيّب متى بدا له، ويستسيغ الخروج قبل الوقت، فلا يزيد إنتاجه عن نصف المردود المنتظر من الوقت المقرّر في أحسن الحالات؛ ثمّ يسمح لنفسه بالدّردشة مع زملاء العمل على حساب عمله، ويجنح إلى الاسترخاء والانحناء إلى هوى النّفس الّذي يملي عليه إهدار الطّاقات فيما لا نفع فيه ولا طائل من ورائه. وهذا ما يمنع حتماً العلوّ في الدّنيا بسبب البطالة والفراغ وعدم اغتنام الوقت فيما هو مثمر.
فأين البلاد العربيّة من دينها الّذي يقدّر قيمة الوقت ويوليه أهميّة قصوى، ويحضّ على الاستفادة منه!؟..امتلأت مدنها بالمقاهي، واكتظّت مقاهيها بالعاطلين عن العمل..!
أهميّة الوقت في الإسلام:
الوقت نعمة تُشكر باستثمارها فيما هو نافع وتُكفر بالتّفريط فيها. والإسلام ينظّم يوم المسلم، ساعات ودقائق، من مطلع الفجر إلى مغيب الشّفق. عن عبد اللّه ابن مسعود قال: "سألت رسول اللّه [ أيّ العمل أحبّ إلى اللّه؟ قال: الصّلاة على وقتها". الصّلاة الّتي تتكرّر خمس مرّات في اليوم في وقت محدّد، تغرس خلق الحفاظ على الوقت وأداء كلّ عملٍ في وقته والدّقّة في المواعيد. وكلّ الشّعائر التّعبّديّة مرتبطة بوقت معيّن، فالصّلاة كتابٌ موقوت.. وصوم الفرض محدّد في شهر معيّن في السّنة.. والزّكاة مقرّرة بمرور الحول.. والحجّ يتمّ في أيّام معدودات من السّنة.. وأحكام الفطر والأضحية والسّفر والرّضاع والضّيافة وغيرها.. كلّها محدّدة بوقت..
وقد أقسم اللّه بالوقت بمختلف أطواره ليلفت نظر الإنسان إلى أنّه أثمن ما أوتيه، ومصدر ربحه الكامل: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (اللّيل 1ـ 2)، (والصّبح إذا أسفر) (المدّثّر 34)، (والعَصْرِ)(العصر 1)، (والفَجْرِ) (الفجر 1)...
وبيّنت السّنّة النّبويّة الشّريفة قيمة الوقت في أكثر من مناسبة. قال رسول اللّه [ " نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس، الصّحّة والفراغ". (البخاري) وقال عليه الصّلاة والسّلام "اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (المستدرك) والشّباب مرحلة التّلقّي والعطاء والإنتاج. ولأهميّة الوقت نهى الإسلام عن اللّغو والكلام في غير طائل. ثمّ أكّد على التّبكير جلباً للنّشاط وحسن العزيمة..
وقد تربّى الصّحابة على هذه المفاهيم الّتي تربط الوقت بما يتمّ فيه من نفع، حتّى أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال: "الرّاحة عُقلة وإيّاكم والسّمنة، فإنّها عُقلة (البيان و التّبيين). "وأثر عن عليّ رضي اللّه عنه: "الأيّام صحائف أعمالكم. "( الثّعالبي) فما بال المسلمين اليوم تركوا تعاليم قرآنهم، و تربية نبيّهم!؟
استغلّ الغرب ساعات عمرهم بهمّة رغبة في زينة الدّنيا، فعاشوا رقياً مادّيّاً، ووفّاهم اللّه أعمالهم فيها.. أما آن لمواطني البلاد العربيّة أن يستثمروا وقتهم في العمل النّافع الّذي يمكّن لهم في الدّنيا، ويعبر بهم إلى الخلد المشرق!؟..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن