اقتل جالوتك، كما قتل داود جالوته..!
كتب بواسطة محمد حافظ
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1144 مشاهدة
كان داوود شابا صغيرا.. من رعاة الغنم، حين خرج لمقاتلة جالوت لم تكن عنده خبرة بالقتال.. ولم يكن معه سلاح من أسلحة الحرب المتعارف عليها وقتها.. وإنما فقط نبلة الراعي التي لا تنكأ عدوا ولا تغني في الحرب شيئا
لقد خرج لمقاتلة جالوت.. العملاق.. المخضرم بالقتال.. المدجج بالحديد.. وقف أمامه على بعد خطوات فحسب بنبلته الصغيرة، يجهز تسديدته الأولى والأخيرة، أمامه ضربة واحدة فحسب.. فإن قضت على عدوه وإلا سيسحقه جالوت.. إنه موقف موت محقق فيما يبدو لنا.. فماذا كانت حسابات داوود.. ومن أين جاء بهذه الثقة والثبات.. وما الخطة التي اعتمدها؟؟
لابد أن نفهم القصة العجيبة إذن من بدايتها..
فقد طلب القوم من نبيهم ملكا لكي يجاهدوا في سبيل الله.. لم يحتاجوا تنظيرات كثيرة ليعرفوا أنه لن يقوم أمرهم إلا بالقتال، وأنه لن يصلح قتالهم إلا بقائد.. كان أمرا واضحا عند الجميع.. (اجعل لنا ملكا نقاتل في سبيل الله)
كان هؤلاء القوم مسلمون، يريدون أن يجاهدوا (في سبيل الله).. كان لديهم ذلك الدافع الديني للقتال، ومعه دافع آخر، وهو الظلم الذي وقع عليهم (وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا)
ولكن غالبهم نكص عن فعل القتال نفسه.. رغم تأييدهم له، ورغم اقتناعهم به، وطلبهم له.. بل ورغم اضطرارهم له بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم (فلما كُتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم)
على البصير ألا يغتر أبدا بالجموع المتحمسة وشعاراتها الكبيرة.. وأن يعرف حجم قدرتها على الفعل ولا يتوقع منها الكثير..
إذن، فلنبق مع هؤلاء القليل، ولنترك الكثرة التي اكتفت بدور المشجع، ولم يجاهدوا أنفسهم على الالتزام بالأمر الشرعي
هؤلاء القلة، قرر قائدهم أن يختبرهم.. اختبار: الطاعة والصبر.. العمودان اللذان بدونهما لن يثبتوا أمام عدو، ولن ينتصروا في معركة
لا تنس أن هذا القائد جاءهم بوحي من الله، وإجابة لدعوة نبي من أنبياء الله.. فهو لا يختبرهم تعسفا و تسلطا و تعنتا.. بل إنه يخبرهم أن هذا الامتحان هو من قِبَل الله تعالى نفسه (إن الله مبتليكم بنهر)
إنه طريق القتال الذي يضعك أمام حقيقتك وواقعك تماما، ويكشف كل زيفك وادعاءاتك ومزاعمك التي تزعمها حال الأمن والعافية..
ظهرت النفوس التي لم تتعود المجاهدة (فشربوا منه إلا قليلا) وكانت هذه هي الغربلة الثانية.. غربلة الثبات على الأمر الشرعي الذي احتفّت به بعض المشاق، أو تُركت لأجله بعض الشهوات.
لدينا الآن قلة مختارة حقا.. نخبة من النخبة.. وصلوا ساحة القتال وهم عطشى.. قلة.. ضعفاء.. متعبون.. فرأوا المنظر المهول.. جالوت الجبار وجنوده في كامل عُدتهم وسلاحهم.. فقالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)
فردّ عليهم قلةٌ منهم بالعبارة التي بقيت على مَرّ الأزمان (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)
لقد كان مستوى ثالث من المجاهدة.. مستوى الارتفاع عن الحسابات المادية للمعركة.. وهنا كلام كثير، ولكن فلنتجاوزه لنصل للمقصود
(فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت) لقد حضر داوود المعركة.. مما يعني أنه نجح في كل الاختبارات السابقة.. فهو لم يتول عن القتال كحال غالب الجموع.. ولم يشرب من النهر كشأن الأكثرية الهشة.. ولم تخدعه القوة المادية للعدو كشأن الذين قالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)
بل زاد مستوى رابع من مجاهدة النفس.. فقد خرج لجالوت حين طلب المبارزة .. خرج له حين لم يخرج له أحد.. حتى من هؤلاء الفضلاء الذين قالوا (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة)
ليقف داوود هذا الموقف كان لابد أن يكون قد جاهد نفسه على صدق التوكل على الله، وعلى تحقيق حسن الظن بالله، وكمال الإستعانة بالله.. والتعظيم لأمر الله.. وكمال الشفقة على المسلمين والرحمة بهم والمحبة لهم.. وكمال التجرد لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله وطلب رضاه ومثوبته.. والزهد في الدنيا والصدق في طلب للآخرة.. وغير ذلك من حقائق الإيمان وأعمال القلب
كان لابد أن يكون قد جاهد نفسه قبل ذلك كله على التوبة والاستقامة والإنابة والتقوى.. فلم يكن ليُقدِم على مثل ذلك وهو من أهل المعاصي والغفلة..
حقق داوود في هذا الموقف عشرات الطاعات.. لو كتبها كاتبٌ في كتابٍ لملأه.. أشار إليها القرآن المعجز بثلاثِ كلماتٍ فحسب: (وقتل داوود جالوت)
لم تكن النبلة إذن هي من قتلت جالوت الجبار.. وإنما انتصار داوود على نفسه و مجاهدته لها هو ما غيّر كل شيء.. انتصار داود على عدوه الذي بين جنبيه هو ما مكّنه من مواجهة عدوه في الخارج وقتله، وبالتالي الانتصار في المعركة، وبالتالي تغيير مصير أمة كاملة وإخراجها من أشد حالات الاستضعاف إلى ذروة الملك والسيادة.
إذن فالمقصد أن تشرع في سبيل المجاهدة عسى أن يوفقك سبحانه لسبيل الجهاد، وإن وفقك لسبيل الجهاد فلا غنىً لك عن سبيل المجاهدة..
لا تعط المجاهدة فضول وقتك ولا تدع مشتتات الدنيا تلهيك عنها.. اجعلها قضية رئيسية من قضاياك..
جرّب نفسك في ترك المألوفات والمحبوبات، وانظر هل تطيعك أم تتأبى عليك.. جرّبها في فعل الطاعات.. كان صيام داود وقيامه مثالٌ عجيبٌ على المجاهدة.. لا يترك نفسه تألف النوم أبدا ولا الطعام أبدا.. هل تسوقك نفسك أم أنت تسوقها.. وتذكر أن هناك العمل، وهناك المداومة على العمل.. فلا تدع الماكرة تخدعك..
جربها في ترك المعاصي والشهوات والشبهات.. هل تستطيع الانتصار على نفسك التي أدمنت شيئا ما..؟ لا تستطيع.. إذن واصل المحاولة.. وأن يقبضك الله وأنت تحاول، خيرٌ من أن يقبضك وقد استسلمت.. وإن لم تدرك غاية المجاهدة فستدرك بعضها حتما.. فالرب شكور، يجزي على القليل بالكثير، ويجزي من يتقرب إليه شبرا بأن يتقرب إليه ذراعا.. وأياً كان ما تدركه منها؛ فهو خيرٌ لك من الاسترسال وترك النفس على سجيتها كحال أهل الغفلة والبطالة.
لا تُصدِق دعاواك حتى تختبرها.. والمجاهدة من بذل الجهد.. لا أعدُك إذن أن يكون الأمر سهلا.. ستتعب وتبذل جهدا.. وإن كبوتَ فقُم مرةً أخرى، ولا تسوّف..
لم يكن داود شابا عاديا يجيد رماية النبلة فحسب.. لقد كان داود (ذا الأيد).. ذا القوة في مجاهدة نفسه على القيام بأمر الله، اختبر نفسه ونجح في الإختبارات.. علم الله منه ذلك، فوفقه ونصره، وكانت الجائزة (وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء).
المصدر : البوصلة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن