«يارا».. المرأة المعنَّفة!
أمسكت يارا سماعة الهاتف بيدها لفترة طويلة قبل أن تقرر طلب الرقم، ثم رفعتها وقالت بصوت متهدج: ألو مرحباً: هنا الخط الساخن؟
- نعم حبيبتي، من معي؟
اسمي يارا، أحتاج إلى استشارة، هل يمكن أن أزور مركزكم؟
- أهلاً وسهلاً بك في أي وقت، هل تحبّين أن نأتي نحن لعندك؟ نحن مستعدون لذلك.. أم..
لا، أنا سآتي، أنا سآتي... شكراً لك... العنوان من فضلك... شكراً... شكراً.
أقفلت يارا الخط وشعرت بشيء من الارتياح، ليس لأنها طلبت المساعدة، فهي تعرف بأنها تستطيع أن تتخطى المشكلة، بل لأنها وجدت مَن يستمع إلى مشكلتها من دون أن يضع اللوم عليها.
عندما دخلت يارا إلى مركز جميعة «حقي» للحماية من العنف الأسري، لم يكن هناك أحد في استقبالها كما وعدوها، لذلك أخذت مكاناً منزوياً في طرف القاعة، وكأنها بذلك تخشى أن يراها أحد فيعرفها.
لم يمر وقت طويل حتى جاءت إحدى النسوة وهي تمسك بيد امرأة في العشرينيّات من العمر تقريباً، وأجلستها على الكرسي، وقالت لها: لن أتأخر عليك، اجلسي هنا، أنت الآن في أمان، لا تخافي...
خيم الصمت على المكان لفترة من الزمن قبل أن تقرر يارا أخذ المبادرة، فسألت الفتاة الجالسة أمامها:
خير يا حبيبتي، ما بك، لماذا تبكين؟ وما هذه الآثار البادية على وجهك؟ من فعل بك هذا؟
أجابت الفتاة والدموع تنهمر على خديها: إنه زوجي.
زوجك؟! يا إلهي، هل يمكن لأحد أن يضرب بهذه الوحشية؟
إنه مجرم، هو يضربني كل يوم تقريباً منذ أن تزوجنا... هكذا، من دون سبب يهجم عليّ ويضربني، لقد صبرت كثيراً على شراسته، ولكني لم أعد أحتمل، لذلك لجأت إلى هذه الجمعية بعد أن نسّقت معها عبر الهاتف.
ألم تحاولي أن ترفعي قضية ضدّه في المحكمة الشرعية وتطلبي الطلاق؟
أطلب الطلاق؟ وأين أذهب؟ إذا كان أهلي يقفون معه فكيف أُقنع القاضي بأني على حق؟... ثم إن تجربتي مع المحكمة الشرعية لا تبشر بالخير، فعلى رغم الآثار البادية على وجهي، وتقرير الطبيب الشرعي، إلا أنهم لم يطلّقوني منه، حتى أتنازل عن أولادي... وطبعاً لم أقبل، وكانت النتيجة جولات جديدة من العنف لا تنتهي..
ألم تخبري أحداً بمكان وجودك؟
لا، هم طلبوا مني ذلك، قالوا لي ألاّ أخبر أحداً، وهم سيحمونني ويهتمون بي...
أرادت يارا أن تكمل كلامها ولكن دخول المشرفة أنهى الحديث بينهما..
طلبت المشرفة من المرأة أن توقع على أوراق خاصة، وأخبرتها بأنهم سيهتمون بها، وسينقلونها إلى دار للرعاية، وسيحاولون أن يحصلوا لها على الطلاق بعد فترة من الزمن...
ألا أستطيع ان أكلّم أولادي؟ قالت الأم المتلهفة على أبنائها...
- قطعاً لا... إياك!.. ستُنقلين إلى الدار الآن.. هيا لا تخافي، ستجدين من يهتم بك هناك.
عندما ذهبت المرأة الْتفتت المشرفة إلى يارا ورحبت بها، وبدأت تستوضح بعض المعلومات حول وضعها ومشكلتها...
وقبل أن تجيب يارا سألت المشرفةَ بصوت قلق:
عفواً.. ولكن هذه الدار التي أرسلتِ الفتاة إليها أليست داراً لتأهيل المومسات والسجينات؟
- هي كذلك، ولكنها دار تأهيل، يعني هنّ أقلعن عن هذا الأمر...
كيف أقلعن والبعض منهن يحوّلن إلى الدار من السجن...
- لو كان لدينا مكان آخر لنقلناها إليه... لا عليك، لن تطول إقامتها هناك... 3 أشهر وتخرج...
تخرج، وبعد ذلك ماذا سيحدث لها؟
- لا يمكن أن تبقى الفتاة لدينا طوال العمر... نحن يَرِدنا الكثير من الحالات... وكما تعلمين لا يوجد لدينا دعم مادي... الآن حدثيني عن مشكلتك...
- لم تتمكن يارا أن تفتح فاها؛ حيث بادرتها المشرفة قائلة: أظن أن هناك إكراهاً في العلاقة الزوجية بينك وبين زوجك، أليس كذلك؟
ليس إكراهاً بمعنى الكلمة... الأمر حدث منذ يومين، كانت أول مرة يحدث بيننا مثل هذا الأمر... ولكنني لم أستطع أن أتقبل الفكرة إلى الآن.
- مرة واحدة تكفي.. ولكن المهم عندما يسألونك في التحقيق لا تقولي مرة واحدة، وقولي إن زوجك اعتاد على هذا الفعل معك...
ولكن هذا لم يحدث، فزوجي إنسان طيب... ثم إنه لم يستخدم الضرب معي... مقارنة مع هذه المسكينة...
- قاطعتها المشرفة قائلةً: ليس من الضروري أن يستخدم الضرب... ألا تعلمين بأنّ هناك أنواعاً كثيرة من العنف؟ يكفي أنه لم يراعِ رفضك... هذا وحده إكراه... أتعلمين بأنه لو حاول خداعك، مثل أن يستميلك بهدية حتى يحصل على مبتغاه، يعتبر ذلك عنفاً؟ لا عليك من التفاصيل، نحن سنهتم بكل شيء، وسنحصِّل لكِ حقوقك.
عفواً... لديّ سؤال: كيف سأُثبت دعوى «الاغتصاب الزوجي»... فكما تعلمين، ما حدث معي كان سراً بيني وبين زوجي، ما هو دليلي؟
- نحن سنتكفل بالموضوع، وسنعتبر ما قلته لنا إخباراً يمكِّننا من رفع الدعوى... وتأكدي بأنني سأسجنه وسيكون عبرة لغيره... يمكن أن يُسجن لمدة 3 سنوات وفقاً للقانون الجديد.. انتظري حتى يقر المجلس النيابي هذا القانون وستجدين العجَب... انتظري...
ولكني لا أريد أن أسجنه.. فأنا وأولادي قد نتضرر من هذا الفعل!
- لا... لا... نحن سنُلزمه بالتكفل بالنفقة والمصاريف كلها... لا عليك.
عجباً!... أسجنه وأطلب منه المصاريف أيضاً؟ وكل هذا لماذا؟ لأنه... عفواً... ولكنه زوجي... صحيح أنه لم يراع ظروفي... ولكنه يبقى زوجي... زوجي يا ناس كيف أسجنه؟ وماذا سيفعل بي بعد أن يخرج من السجن؟ هل تضمنين لي ألاّ يقتلني؟ وماذا سيقول الناس للأولاد عن والدهم: خِرّيج سجون؟ سبحان الله... اعذريني سيدتي... ولكن ليس هذا ما أريده... أعتذر أني أخذت من وقتك...
صافحت يارا المرأة بسرعة وانطلقت إلى سيارتها وقد نسيت تماماً مشكلتها... كانت تفكر بهذه الصغيرة التي لا يعلم إلا الله وحده كيف سيكون مصيرها... وتساءلت بينها وبين نفسها: من يتحمل مسؤولية ما حدث لها؟ هل يمكن للأهل أن يكونوا بهذه الوحشية حتى يلحظوا معاناة ابنتهم ولا يقوموا بأيِّ عمل؟ ألا ينبغي أن تتولى المحاكم الشرعية والمؤسسات الإسلامية مثل هذه القضايا وتحاول إيجاد الحلول لها؟
أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهن يارا وهي تقود السيارة قبل أن تنتبه أنها فتحت باب البيت لتجد زوجها واقفاً أمامها وفي يده طاقة من الورد وهو يبتسم لها ويقول: لطالما كنت وجه خير في حياتي، سامحيني... ترددتْ يارا قبل أن تمسك بها مبتسمة، وفكرت بينها وبين نفسها: إذا كانت هذه نتيجة «الخداع الزوجي» فأهلاً ومرحباً... بهذا الخداع...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة