د. فاطمة الزهراء دوقيه
طوفان الأقصى... إنّ مع العسر يسرًا (الجزء الثاني)
لِمَ قدَّر الله تعالى على أهل غزَّة كلَّ هذا العسر، وكلَّ تلك العذابات والمصائب؟ أليشقيهم ويعذِّبهم؟؟
ينفي الله عزَّ وجلَّ أن تكون غايته إشقاء عباده وتعذيبهم، ويخبر عن سعة غناه وعظيم إحسانه، فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِیمࣰا﴾ [النساء:١٤٧]، إنَّه "يعطي المتحمِّلين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال، جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه" (تفسير السعدي).
الحقيقة المقرَّرة هنا أنَّ الله تعالى في غنىً عن عذاب العباد؛ فما به سبحانه من نقمة ذاتيَّة عليهم يصبُّ عليهم من أجلها العذاب، وما به تعالى من حاجة لإظهار سلطانه وقوَّته عن هذا الطريق، وما به من رغبة ذاتيَّة في عذابهم، وإنَّما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله، مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله. إنَّها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل، ولا التذاذ الآلام، ولا إظهار البطش والسلطان، تعالى الله عن ذلك كلِّه علوًّا كبيرًا (يراجع في ظلال القرآن، سيد قطب).
ما في الأمر أنَّه تعالى يبتلي عباده المؤمنين لخيرهم وصلاحهم، بأن ترتاض نفوس أوليائه، وتظهر مغالبتها للدَّواعي الشيطانيَّة، فتحمد عواقب البلوى، ولتتخبط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرِّها زمانًا (التحرير والتنوير، ابن عاشور).
هي إرادة إظهار الإيمان والشكر والصبر والرضا، ليشكرهم سبحانه بأن يجزيهم خيري الدنيا والآخرة؛ ألا ترى قوله تعالى: ﴿إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ * وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ * أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:١٤٠-١٤١]، إنَّه سبحانه يبشِّرهم أنّه يبتليهم بالقرح لأجل مصالح ومنافع عظيمة: ليعلم الذين آمنوا، وليرى من يصبر عَلَى مناجزة الأعداء، وليتَّخذ منهم الشهداء الذين يقتلون في سبيله، ويبذلون مُهَجهم فِي مرضاته، ثم ليمحِّصهم؛ أي ليطهِّرهم ويكفِّر عنهم من ذنوبهم إِن كان لهم ذنوب، وَإِلَّا رفع لهم فِي درجاتهم بحسب مَا أصيبوا به. ومن المنافع كذلك التي تتحقَّق بهذا القرح محق الكافرين؛ فإنّهم إِذَا ظفروا بغوا وبَطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم وفنائهم (تفسير ابن كثير)، ما يعني تخليص الأرض والعباد من شرِّهم وفسادهم.
وتأمَّل قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ * وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾[العنكبوت:٢-٣]، حيث "يخبر تعالى عن تمام حكمته، وأنَّ حكمته لا تقتضي أنَّ كلَّ من قال "إنَّه مؤمن" وادَّعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوِّش عليهم إيمانهم وفروعه، فلو كان الأمر كذلك، لم يتميَّز الصادق من الكاذب، والمحقُّ من المبطل، ولكن سُنَّته وعادته في الأوَّلين وفي هذه الأمَّة، أن يبتليهم بالسرّاء والضرّاء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل، ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلّها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دلَّ ذلك على صدق إيمانه وصحَّته. ومن كان عند ورود الشبهات تأثُّر في قلبه شكًّا وريبًا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحَّة إيمانه وصدقه" (تفسير السعدي).
وها هم أهل غزَّة (شعبًا ومقاتلين)، يسَّر الله عليهم ووفَّقهم أن أظهروا الإيمان في أصدق صوره وأنقى قيمه؛ فصبروا وصابروا ورابطوا، وشكروا أن اصطُفوا للشهادة، وضحّوا في سبيل الله بأغلى ما عندهم، واحتسبوا طامعين فيما بشَّرهم به ربُّهم مصدِّقين بما أخبرهم: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:١٥٥].
إنَّهم مع شدَّة مأساتهم وألمهم، أظهروا حالة إيمانٍ راسخٍ، وقوَّة ثبات وصمود لا تتزعزع، ورسوخ اليقين بوعد الله لا يتزحزح. لقد وصلت حالتهم الإيمانية إلى أكمل وجه؛ بأن لم ينطقوا إلا خيرًا، ولم يقولوا إلا ما يرضي ربَّهم: ﴿ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ﴾ [البقرة:١٥٦]؛ معبِّرين عن مقتضى إيمانهم، متلبِّسين معنى ما ينطقون؛ بأنَّهم من خلق الله، وملك الله، وإلى الله مرجعهم، الذي بيده ملكوت كلِّ شيء، ولا يفعل إلّا ما سبقت به الحكمة، بحيث ينطلق اللسان بالكلمة، بدافع الشعور بهذا المعنى وتمكنّه من النفس، فأصحاب هذا الاعتقاد والشعور هم الجديرون بالصبر إيمانًا وتسليمًا بحيث لا يملك الجزع نفوسهم، ولا تُقعِد المصائب هممهم، بل تزيدهم ثباتًا ومثابرةً فيكونوا هم الفائزين بإذنه تعالى. (يراجع تفسير المنار، رشيد رضا)
تسمع أكثر أقوالهم الحمد والشكر والحسبلة، ما هالهم تجبُّر العدوِّ وعلوِّه وقوَّته، ولا اجتماع دول العالم بأنظمتها وسلاحها عليهم، بل حالهم: ﴿ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ﴾ [آل عمران:١٧٣]؛ إنّهم أصحاب النفوس الكبيرة، التي لا تعرف إلّا الله وكيلًا، وتكتفي به وحده، وتزداد إيمانًا به في ساعة الشدَّة، وتقول في مواجهة تخويف النّاس لهم بالنّاس: حسبنا الله ونعم الوكيل (في ظلال القرآن، قطب).
هي إذًا مصالح ومنافع تُؤتى بالمحن، وخيراتٌ تُجلبُ بالمكاره، ويسر بعد عسر، فـ'رُبَّ ضارَّة نافعة'..
إنَّ من طبيعة الإنسان أن يكره أمورًا، ويحبَّ أخرى، لكنَّه لا يعلم يقينًا إنْ كان ما يكرهه خيرًا، وإن كان ما يحبُّه شرًّا، فمن طبيعته أيضًا قصور نظره؛ فكم ممّا تكره النفس فيه خير يجلب مسارّ ونجاحات، وكم ممّا تحبّ فيه شرّ يجلب مضارّ وخيبات، فالأمور بعواقبها. ولهذا قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ شَرࣱّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة ٢١٦]، ويقول: ﴿فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا﴾ [النساء:١٩].
فهي حكمةٌ ربّانية عظيمةٌ، إذ قد تكره النّفوس ما في عاقبته خير، كما قد تحبّ ما في عاقبته شرّ، فبعضه يمكن التوصُّل إلى معرفة ما فيه من الخير أو الشرّ عند غوص الرأي. وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيرًا أو شرًّا، لكنّه لم يظهر للنّاس. فالمقصود إذًا الإرشاد إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة، ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم، حتّى يسبره بمسبار الرأي، فتتحقَّق سلامة حسن الظاهر من سوء خفايا الباطن (يراجع التحرير والتنوير، ابن عاشور).
وإذًا، صحيح أن معركتنا طوفان الأقصى صاحَبَها طوفان من المضارّ والرزايا والآلام والمآسي التي يندى لها الجبين، وتحترق لها القلوب، ويشيب لها الولدان، التي وقعت على أهل غزَّة بيد عدوٍّ مجرم، وباغٍ متعالٍ يحسب ﴿أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ﴾ [البلد:٥]، ومعتدين﴿لَا یَرۡقُبُونَ فِی مُؤۡمِنٍ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰ﴾ [التوبة:١٠]، لكن صحيحٌ أيضًا أنّ في ذلك خيرًا كثيرًا كما سبق، بل يتضمَّن البشارة: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح:٥-٦]؛ أي"أنّه كلَّما وُجِد عسرٌ وصعوبةٌ، فإنّ اليسرَ يقارنه ويصاحبه، حتّى لو دخل العسر جحر ضبٍّ لدخل عليه اليسر فأخرجه، كما قال تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق:٧]، وكما قال النبي ﷺ: {وإنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا}. وتعريف "العسر" في الآيتين، يدلُّ على أنّه واحد، وتنكير "اليسر" يدلُّ على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين" (تفسير السعدي).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة