أسباب تخلّف المسلمين: تحقّق وتبيين

ما زال أكثر المسلمين ومن جميع الدرجات في المناصب والمراتب يحيون بعقلية إثبات نظرية المؤامرة في كل ما هو طارئ في حياة الأمة الإسلامية المعاصرة، وأن الأعداء من شتى الأنحاء هم سبب ما نحن فيه من تخلف فكري وثقافي واجتماعي ومادي، فضلًا عن التخلف الصناعي والعلمي، وهما ركيزتا كل تقدم في كل أمة تريد التطور ومواكبة كل ما هو جديد.
يمكن لنا القول أولًا أننا لسنا بصدد الخوض في كل ما هو قابل للمقارنة بين ما نحن عليه وما هو العالم المقابل عليه، فهذا لا يصل بنا إلى نتيجة. ولكن يمكن وضع أسس ننطلق منها لبيان أسباب التقدم لكل أمة حتى نصل بالنتيجة إلى أسباب تخلفها، مع إعطاء أمتنا الخصوصية التي تتمتع بها والتي لا يصح أن تقترن بأي أمة أخرى.
إن الإسلام جاء إلى قوم كلهم عشائر وقبائل تتناحر فيما بينها، وقد أحسن سيدنا جعفر بن أبي طالب الوصف في ذلك عندما وقف بين يدي النجاشي، فقال له: "كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونقطع الأرحام". وقال له فيما ملخصه: "كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله نوحده ونعبده".
فمن هنا يمكن لنا البدء بتعيين الداء ومعرفة الدواء. إن الداء كان في أمرين: الشرك بالله وضياع الأخلاق والقيم في المجتمع الجاهلي، وأما الدواء لذلك فوجود قدوة يُوثَق بها ويُستكان إليها في كل أمر وكل نهي. والسؤال هنا: ما علاقة ذلك بالتخلف والتقدم مما ذكرناه مقارنة بالعالم المعاصر، الغربي منه تحديدًا؟ فهو يجمع بين الكفر وفواحش الأخلاق في أغلب مجتمعاته، مما ذكرنا من حديث جعفر. وإن كانت تلك الفواحش بصور جديدة وأساليب مبتكرة، لكنها صورة متجددة للمجتمع الجاهلي قبل الإسلام.
والجواب على ذلك هو أن نقول أولًا إن الإسلام حول تلك القبائل والعشائر المتناحرة إلى أمة واحدة في دولة وخلافة لها رأس واحد، جمعت بين الدين ومكارم الأخلاق مع الاجتهاد والبحث في الأرض، فكان أن وصلت إلى ثلاثة أرباع المعمورة شرقًا وغربًا، وكان منها سادة في شتى أنواع العلوم والمعارف الإنسانية.
وأقامت حضارة في بلاد الأندلس لثلاثة قرون كتبها التاريخ بماء من ذهب، ووصل ملكها إلى حد أن قال يومًا الخليفة هارون الرشيد للسحابة الراكِنة في السماء: "أمطري حيث تشائين، فخراجك عندي".
فأقول هنا إن الإسلام في فجر انتشاره جمع بين الدين والمدنية فبلغ هذا الشأن الذي ذكرنا. وإن الغرب اليوم قد أهمل الدين ووضعه في العزلة والطقوس العابرة، ولكنه أخذ بأسباب العلم والحضارة، فنجح فيما يمكن تسميته الاجتهاد البشري. وإن كان ترك الدين والخواء الروحي في تلك المجتمعات المادية يحمل بذور الفناء القريب، لأنه لا حضارة مستديمة إلا بجمع ما بين غذاء الجسد وغذاء الروح.
ولنا الأمثلة في ذلك. فقد توجه العالم المسمى بلاد الشرق في روسيا نحو الإلحاد الظاهر والكفر البواح، وكان في ذلك يحمل بذور زواله مع الجبروت الذي كان عليه والسلاح النووي المدجج في بلاده، وهذا ما حدث فعلًا، وانتهت تلك المجموعة وتلاشت كأوراق شجر الخريف، لأنها أعطت المادة كل شيء وتركت الروح بلا غذاء.
أما بلاد الغرب، فهي مع شركها لم تحارب الدين ولم تمنع المسلمين من إقامة شعائر دينهم ولو بالحد الأدنى، واتجهت إلى الاستفادة مما هو مكتوب عند المسلمين في سورة تحمل اسم التبدل والتحول لو أحسنوا استخدامها، ألا وهي سورة الحديد. والتي بين الله منافع هذه المادة التي تخرج من الأرض وتبنى ثلاثة أرباع الحضارات المادية منها. قال تعالى: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس".
وانظروا معي إلى الترتيب في الآية، فقد بدأت بذكر البأس الشديد قبل ذكر المنافع، وذلك يعني ما يعنيه أن الأمة التي لا تحمي جدار حدودها لا يمكنها أن تستفيد من خيرات بلدانها.
إن أول أسباب التمدن والتقدم جمعها الإسلام في آية واحدة: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فهي تجمع بين أسباب الدين وأسباب الدنيا معًا، ولا تقوم هذه الأمة خصوصًا بدونهما والواقع خير شاهد. فقد أصبح المسلمون يستخدمون دينهم سببًا للتخلف عن ركب الحضارة والمدنية بحجة عدم تقليد الغرب الكافر في نمط حياته ومعيشته.
ومن قال إن التقليد منهي عنه بالكامل؟ ومن قال إننا إذا حظر علينا تقليد الكفار في نمط معيشتهم وأعيادهم وطقوسهم وتحررهم الأخلاقي الفاضح يعني أن علينا أن نغلق الأبواب علينا فلا نستفيد من علومهم وتجاربهم العلمية التي أوصلتهم إلى القمر، ولم نصل نحن إلى أدنى من ذلك بكثير؟
لقد قال أحد علماء المسلمين يومًا: "لقد ضحك علينا الغرب أعطانا الكفر والفقر وأخذ منا العلم والإيمان"، وهذا صحيح لحد بعيد. ويمكن تفسيره أكثر فيما قاله الشيخ محمد الغزالي، العالم المصري البارز. إن تعليم الصلاة لأحد المسلمين لا يستغرق أكثر من دقائق، ولكن تعلم ركوب الدبابة أو الطائرة يحتاج أشهرًا وسنوات.
فشاهد القول هنا أننا تحولنا إلى أمة جدل وصراع فيما قد مضى، لا يسمن ولا يغني من جوع، وإن العلم النافع الجامع بين مصالح الدين والدنيا هو أحد معاول الهدم للتخلف في حياة الأمة.
ولو جاء أيضًا من يقول إن بلداننا تنعم بالخيرات وفيها بلاد الذهب الأسود (النفط) وكل أسباب التقدم المادي، ولكن الحكام هم علة هذا التخلف، وهم الذين بذخوا وأسرفوا وأضاعوا أموال أمتهم للأعداء، وتركوا شعوب بلدانهم وإخوانهم في الدين يتضورون جوعًا، وتشتريهم الإرساليات التبشيرية برغيف من الخبز مقابل أن يتنصروا.
ويقول آخرون إن الأعداء لم يتركوا لنا فرصة للتنفس حتى نعمر بلداننا، والحروب تترى علينا عام بعد عام، فكيف يمكن لنا أن نتقدم وألسنة الحروب لا ينطفئ لهيبها؟
فنقول: أما أصحاب القول الأول، فإن الله سبحانه قد سخر هؤلاء الحكام الظلمة وسلطهم على شعوبهم حتى يستفيقوا من غفلتهم وينفضوا التراب من على كاهلهم. والله تعالى يقول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم".
أما أصحاب القول الثاني، إن مما ينبغي قوله إن الأعداء لن يصبحوا أصدقاء، فكيف إذا كان ذلك العدو من قال الله فيهم: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" ومن خلفهم أعوانهم من أهل الشرك والطغيان.
ولكن يمكن لنا أن نهادنهم ليس ضعفًا ولا استكانة لهم، بل لأجل أن نستجمع قوانا ونبني أنفسنا ونجهز أسباب القوة لدينا. ولنا في دولة غير مسلمة (اليابان) مثال صارخ في ذلك، فقد ضربتها في أربعينات القرن الماضي أمريكا بالسلاح النووي واستعمرتها سنين عددًا، فالتفت شعب هذا البلد إلى بناء دولته وشعبه، وأصبحت تلك الدولة في غضون سنوات أكبر نظام اقتصادي معاصر.
وليس معنى ما قلناه التسليم للأعداء ولا المودة لهم، فإن هذا مما ينافي قيم العزة في الدين. ولكن لا بد من العودة للذات وإصلاح ذات البين، وجعل البيت المسلم الكبير أكثر أمنًا واستقرارًا حتى يمكن المضي بإصلاح الأمور، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أسباب تخلّف المسلمين: تحقّق وتبيين
النسوية.. واقع وتوجّه
الهجرة عقيدة
أهمية الثقافة الجنسية للأبناء وفق الشريعة الإسلامية
' فاديا عكيلة ' فقيدة غالية في عالم الدعوة في لبنان