وقفات قافية.. مع السيرة النبويّة
لقد كان مولد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته وصحابته رضي الله عنهم أجمعين إيذانًا بفجر جديد، انبلج على العالم الذي كان يحكمه في أرض مولده زعامات جاهلية، وفي الخارج مملكتان إحداها فارسية والأخرى رومانيّة وبين الداخل والخارج إلى الشراذم اليهوديّة.
وقد وُلد نبيّ الأمّة بعد أن أنجى الله بيته الحرام من الفيلة الحبشيّة بجحافل مليونيّة فكان ذلك إشارة إلى أنّ عنصر القوّة الأوّل في ميلاد خير البريّة إنّما هو في حماية الوحدانيّة التي بدأت معالمها في القواعد التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في الأراضي الحجازيّة. وبعد ذلك انشقّ بمولده العظيم إيوان كسرى دلالة على إخماد النار المجوسيّة، فكان ذلك عنصر قوّة ثانٍ في تحرير أرض سيفتحتها المسلمون فيما بعد، ومفتاحها مولد خير البشريّة ولمّا ولد الحبيب المصطفى كانت البركة والعطايا من الخيرات تتجلّى فيمن جاوره في المسكن وكان معه في المطعم والمشرب، وأوّلها مرضعته حليمة السعدية. ونما الطفل الرضيع ليصير فتيًّا يافعًا يرعى الأغنام تربية له على قيادة البشريّة.
ومن ثمّ عمل بعد أن شبّ تاجرًا مع جدّه بين أرض الشام وبين مكّة لينال شرف البشرى له، وهو قد بشَّره ورقة بن نوفل بخاتم النبوّة عليه ظاهرة جليّة. وقدَّر المولى أن يجتمع بسيِّدة طاهرة ذكيّة هي خديجة بنت خويلد التي اقترنت به وانتسبت معه بالرابطة الزوجيّة. وكانت معه نِعْمَ النصير في اعتكافه في الغار ومناجاته الذات العليّة، وفي المواساة له والتخفيف وهو يتلقّى الآيات القرآنيّة. ومنها جاء الطلب بعد البشارة النبويّة أن يصدح بالأمر ويبلّغ وحي السماء للأقربين نجيًّا. فكان الصدّ من أبي لهب ظاهرًا جليًّا. ولكن كان للإيمان منازل لقلوب أشرق عليها الإيمان كقطر الندى نديًّا. وبدأ الصراع بين الحقّ والباطل والتعذيب لمن أسلم، تجويعًا وتعطيشًا وجلدًا ورميًا في الصحراء سبيًا. ومن النماذج في ذلك مَنْ هو أسود اللون وعبد لسيِّده في العبوديّة له مرميًّا، وأعتقه أبو بكر ليكون أوّل من رفع صوته بالآذان نداء الحقّ وصار سيِّدًا اسمه محكيًّا. وبعد طول عذاب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام لمن أحبَّ الهجرة لبلاد الحبشة وجعفر الطيّار على رأس القوم عليًّا، وقال عنه أنّه لا يُظلَم عنده أحد وأنّه في قلبه التوحيد مجليًّا. ولمّا مات صلّى عليه المسلمون صلاة غيبيّة. واستمرّ أهل الكفر في التعذيب لمن وحَّد الله ونال رسول الله من ذلك نصيبًا مأتيًّا.
وخرج إلى الطائف وحوله أكثر السفهاء خلفه بالحجارة عديًّا. ولجأ لتحت شجرة يستظلّ بها محميًّا، والدم الزكيّ ينزل من تحت قدميه مجريًّا. ونزل ملك الجبال ينتظر منه إشارة رمزيّة ليطبق عليهم الأخشبين ويصيروا نسيًا منسيًّا. فقال النبيّ الأمين لا وأرجوا أن يخرج الله من إصلابهم مَن يُوحِّد الله ويسجد له نجيًّا.
وواسى الله رسوله برحلة الإسراء والمعراج. ورأى من آيات ربّه الكبرى ما لا يمكن أن يجاريه فيه رسولًا نبيًّا. وأذن الله لرسوله بالهجرة الكبرى ومعه أبو بكر صديقًا ورفيقًا وصاحبًا وفيًّا. وخاب ظنّ أهل الكفر بالنيل ممَّن حماه الله في الغار، وصاحبه يلتصق به حاميًا محميًّا. ووصل الرسول المدينة والحناجر تصدح بطلوع البدر ووجوب الشكر ممَّن بعثه الله بالأمر المطاع ومَن شرَّف الله به البريَّة. وبنى الرسول أوّل مسجد في الإسلام. والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بالدم والمال والمصاهرة جليّة. ولمّا أتمّ الله نعمته على عبده بالفتح والرجوع لمكّة ظافرًا وقد وقف أهلها ورؤوس القوم له محنية، وقال لهم: "ما تظنّون أنّي فاعل بكم؟". قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم". وردّ عليهم بالعفو وأنتم الطلقاء وشيَم العزّ فيه بين جنباته مطويّة. وبعد إتمام الرسالة وإكمال الدين نزلت آيه النصر، وطلب التسبيح والاستغفار من التوّاب بلاغًا بالنعي عرفه ابن عباس واستنبطه جليًّا.
وفي خطبة الوداع كانت الخطبة العصماء بجوامع الكلم مقفيّة. وفيها حقوق العباد وحقوق النساء وافية وفيّة. وجاء الأجل بوحي السماء لا خلود في الوجود إلّا للحيّ القيّوم أمرًا مقضيًّا.
وبعد فقد عرضْتُ ملامح من السيرة الزكيّة، بالقوافي النثريّة. وأمّا أنّني أو أحد يمكن له أن يستوفي غيض من فيض من سيرة خير البريّة فهذا محال ويكفي الاقتراب والوقوف ضيوف على باب النبوّة حتّى ننال من بركته ومن سيرته المطهَّرة المطهِّرة نفحة زكيّة. والحمد لله أوّلًا وآخرًا ومن عنده صحف الخليقة أوراقها محصيّة.
فهل مِن معتبر وهل من متّعظ؟ وهل مَن يقرأ ويراجع ويعلّم سيرة نبيّه المنسيّة؟ أم أصبحنا نجمع كل المواعظ والمدائح ليوم في السنة محكيّة على المنابر وعلى المنصّات متليّة. ويتنازع القوم لا على ما يفيد ويجمع ويوحّد كلمة الأمّة ويجعل الأعداء عن النيل منها عصيًّا. بل على الكلام بمشروعيّة المولد وإن كان بدعة أو حتّى معصية عند البعض لذكره أو التذكير بمولده وعنده ذلك اليوم عاديًّا. فلا مَن فرح فاز ولا مَن أنكر استفاد، وضاعت الأمّة في سوق الجدال والخصام. ورسول الله يشكو لربّه أنّه رسول رحمة وجامع الأمّة، ولا ينبغي جعل مولده للخصام مطيّة.
نسأل الله أن يجعلنا نفرح بمولده ونعمل بسُنَّته وننال شفاعته ونقول للكون كلّه فزنا وربّ الكعبة لذكر وذكرى من انحنى له جذع الشجرة حنيًّا، والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير