الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!
![الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!](https://ishrakat.com/cms/upload/articles/7818_600X400articles.jpg)
يعجب المرء عجبًا يفوق الوصف ويكاد يلامس الخيال لما قد ابتدأت به الثورة السورية قبل ما يقارب ثلاثة عشر عامًا أو يزيد. وقتها كانت ثورة ابتدأت بأنامل أطفال صغار عبّروا عن روح الكبار المكبوتة منذ خمسين عامًا من الحكم الهولاكي المتمسِّح بلباس القومية والوحدة العربيّة.
وقتها كان ردُّ الحاكم على ثورة الأطفال المدنية المثكلة بالجراح ردًّا قاسيًا إلى درجة تقطيع الأصابع والقتل والترويع. ولم يُحسن حاكم بلاد الشام التعاملَ مع مثل هذه الفورة التي سبقت الثورة، فكان الردُّ يماثل حَمَلًا قد لامس ذَنَبَ الأسد وداس عليه فكان ردُّ الأخير أن افترسَه بلقمة واحدة ولم يكتفِ بمجرَّد التأديب والتأنيب.
وهكذا مضت الأمور للتحوُّل إلى ثورة عارمة جارفة أخذت معها كلَّ شيء من الاحتجاج والعصيان المدني والنزول إلى الشوارع، فزاد الحاكم على ما اقترفه مع الأطفال بأن حرَّك الجيش الذي أُسِّسَ أصلًا من مال الشعب ليحميَه لا لينقضَّ عليه من الأرض والسماء. فكانت ذلك ظاهرة في تاريخ الثورات أن يُستعملَ الجيشُ كعدوٍّ لشعبه الذي هو منه. وبدأ القمع يأخذ أشكالًا وحشية همجية، يكاد أن يخجلَ هولاكو وجنكيز خان من التشبُّه بها، فتمَّ الحرق والهدم من البر والبحر والجو. وسخّر الإعلام ليلوكَ كلمة الإرهاب والإرهابيّين في كلِّ ما حدث وجرى، وإنّها مؤامرة كونية يُراد منها إجبار حكّام هذا البلد على الركوع والاستسلام للعدو اليهودي، ولكنّ الحقيقة خلاف ذلك تمامًا. لا سيّما أنك تستطيع أنْ تخدعَ بعض الناس بعض الوقت وأنْ تخدعَ بعض الناس كلَّ الوقت ولكن لا يمكن أنْ تخدعَ كلَّ الناس كلَّ الوقت. فما قد جرى من بطش وتنكيل واعتقالات واغتصاب وتغييب في ظلمات السجون السفلية يُعَدُّ متقدِّمًا بأشواط على ما فعله النازيّون واليهود مجتمعين.
ومضت الثورة السورية في طريقها تنعى ألوفًا مؤلَّفة من الشهداء كلَّ يوم بأسلحة كيماوية أحرقت الأخضر واليابس، واختنق الأطفال والرُّضَّع في أسِرَّتهم، تحت سُحُبِ دخان أسلحة محرَّمة. وشاهد العالم كلُّه ماجرى ولكنّ حكّام البلد قالوا عكس ذلك إنّهم 'الإرهابيون' أو إنّه 'فيلم هوليودي' استخدم وسائل الترويج والتمويه لتغيير الحقيقة وجعل القاتل ضحيّة والمقتول عليه الملام والمسؤولية.
واستقرَّ وضع هذا البلد الجريح في ما قبل نهاية المطاف على بلد متقطِّع الأوصال تحكمه دُوَلٌ من الشرق والغرب وتأخذ خيراته، وشعبه أصبح إمّا لاجئًا في وطنه وإمّا مغتربًا في الشتات بالملايين، بينما الحاكم وحاشيته في قصورهم العاجيّة قابعون. وهم في وادٍ بعيد عن الواقع مقيمون. ومَن تصدر منه أيُّ معارضة من أهل البيت الواحد فمصيره القتل والسَحْل والنفْي. وسيِّدة القصر الأولى ترفل بالحرير والحديث من العاج والذهب وثرواتٍ تكاد تُعَدُّ من الأساطير مقابل شعب ذليل حسير يقف بالطابور كالقطيع ينتظر دوره بفتات من الطعام والكساء لا يصلح إلّا للبعير، وظنَّ هذا الحاكم ومَن معه أنَّ الأمر لن يتغيّرَ ولن يتبدَّلَ طالما أنَّ هناك له مساندًا ونصيرًا ومَن يسانده بقتل شعبه طالما أنّ ذلك كلَّه تحت راية الحرب على الإرهاب يمضي ويسير.
ولكنّ الذي جرى وبأمر الله العليِّ القدير قَلَبَ الموازين كلَّها وجعل المطلوب والمطارد في بقعة من أرض بلاده والملتزم بالإسلام والقرآن والذي هو ومَن معه على قوائم الإرهاب يدخل في ثورة بيضاءَ لم يُرَقْ فيها دمٌ ويفرُّ حكّام البلد كالجرذان.
إنّها قُدْرَة الله الواحد الديّان الذي قال: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾]غافر[، أجل دقِّقوا معي في الشاهد في الآية نرى الظالمين هم سبب كلِّ ماجرى حيث إنّه أينما وُجِدَ الظلم وُجِدَ الخراب والهلاك للبلاد والعباد، ولا ينفع تزيين الأحوال بتغيير الواقع بالتمثيل وعرض البطولات في غير مكانها بالتطبيل والتزمير.
وممّا يمكن استنتاجه من الثورة السورية البيضاء أنّه يمكن لأهل الدين والالتزام أنْ ينتقلوا من متاريسهم ومحاريبهم إلى سُدَّة الحكم والقيادة بما يمكن وصفه بالتَّحَلِّي وعدم التَّخَلِّي، وذلك معناه أنْ ينهجَ الحاكم المسلم منهج الوسطية في معاملاته الدولية المختلفة المتشابكة بين علمانية وصليبية وعنصرية وقومية وحتى إلحادية، فهو كمَن يمشي بين حقلٍ من الألغام، فلا بُدَّ من التَّحَلِّي بالصبر وبُعْدِ النظر في عَرْضِ الإسلام بين غابة من وحوش الأنام، ولا يعني ذلك أبدًا التَّخَلِّي عن ثوابت الإسلام في الحكم والقيادة وفي العقيدة والعبادة. وعَرْضُ الإسلام على أنّه هو الحلّ لا بُدَّ أن يجد العالم أثرَه في التطبيق بعد التمكين. وهذا لا ينفرد فيه المسلم لوحده فردًا كان أو جماعة، والله تعالى يقول: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ]النور[55. إذًا الأمور الثلاثة في الآية والتي يمكن تحقُّقُها بعد تحقُّقِ الإيمان والعمل الصالح إنّما هي من تدبير الله سبحانه فهو الذي يعطي للصالحين من عباده الاستخلاف والتمكين واستبدال ما كانوا عليه من خوف أمنًا. وهذا بيت القصيد ممّا نعنيه ممّا برز في تجربة الثورة البيضاء في سوريا، والتي وإن سالت الدماء غزيرة في بدايتها فإنّها أثمرت ما نرجوه من الله تعالى لها ولكلِّ أرض الله وملكه في الأرض.
لقد انتصر أهل بلاد الشام التي باركها الرحمن بأن ذكرها القرآن في ذكر ثمراتها تعبيرًا عنها في قوله تعالى: ﴿والتِّينِ والزَّيْتُون﴾، وتنشَّقَ أهل هذه الأرض الطيبة أرض الرباط والجهاد نسيمَ الحرية من العبودية والوصول لعنان السماء برفع كلمة الحقّ في أعلى الأركان.
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
الكلمات الدالة : انتصار الشام ثورة منهج الإسلام الإيمان الصادق استخلاف تحرير العباد السلام الحكم العادل سوريا النظام حماه حلب سوريا
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!
قصّة حياة قرآنيّة
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!