التصويب الإيماني بين المقام الرباني والنفاق الشخصاني

لقد وضع الإسلام قواعد ينبغي الرجوع إليها في التعامل مع أصحاب الشأن والحوائج والقدر في أي موقع ديني أو سياسي أو اجتماعي. وهذه القواعد تعتمد على سلم الهرم الواجب الوقوف عنده وعدم تخطيه. ويمكن لنا أن نأخذ أول مثال في ذلك وهو مقام شخص النبوة، وهو الذي اختاره الله من بين كل الناس رسولًا من الله إليهم. وقد جمع الله في آيتين ذلك الاصطفاء والاجتباء لكل الأنبياء من آدم إلى نوح، ومنها ذرية إبراهيم وآل عمران على العالمين. قال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم.} [آل عمران].
وينبغي بناءً على ذلك التفضيل الوقوف عند حدود ألا يتقدم أحد على نبيه لا في القول ولا في العمل. وقد جعل الله لأمة محمد عليه الصلاة والسلام بيان ذلك الأدب الملزم لأصحابه فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم.} [الحجرات]. ويتقدم الأمر إلى درجة عدم رفع الصوت ولا الجهر بالقول أمام الرسول كالعادة المتبعة بين الناس العاديين. قال تعالى: 'يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.' فالأمر جد خطير يؤدي بأصحابه إلى أن تحبط أعمالهم وهم في غفلة من الأمر.
وقد قدم الله تعالى ما يمكن تسميته بالترتيب في تعيين من يمكن الاقتداء بهم والسير وراء شخصهم، وذلك أولًا من النبي مع أمثاله من الأنبياء، وذلك في قوله تعالى: {أولئك الذين هداهم الله، فبهداهم اقتده.} ثم بين الله تعالى منزلة الرسول مع أمته: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.} وهذه الأسوة ليست تنظيرًا ومجرد اجتهاد في التعبير، بل هي دليل وتسيير للاقتداء الكامل بشخص الرسول الكريم في كل شيء كبير أو صغير، وعدم التقديم بحضوره حيًا أو مع سنته بعد لقاء وجه ربه بكل أمر من غيره، إلا وله هو التقدم والتقرير.
ويأتي بعد ذلك التعميم في أن كل الناس سوف يأتون يوم القيامة بالإمام الذي ساروا خلفه، فمنهم من قادهم إلى الجنة بعد الحساب اليسير، ومنهم من يقودهم إلى النار وسوء المصير.
ولا بد من القول هنا إن الأنبياء وحدهم لهم حق الحكم فيما أنزل الله من أوامر ونواهي، وإن الناس عليهم الاقتداء بهم والسير حذوهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. ذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موحى إليهم ولهم العصمة فيما اختارهم الله واصطفاهم به عن غيرهم من البشر. ولا بد هنا من القول إن الله خص الأمة التي اختارها سبحانه - خير أمة أخرجت للناس - بأن جعل لها في شخص رسولها عليه الصلاة والسلام ما يكفيها ويغنيها في الاتباع عن كل الأنبياء والرسل السابقين. ودليل ذلك لما رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام عمر رضي الله عنه ومعه نسخة من التوراة، فغضب وقال: 'يا عمر! أتتهوَّكون؟ لو جاء موسى وعيسى ما وسعهم إلا اتباعي.'
ومن هنا فنجد ترتيب الاتباع وحدوده، وأما ما جاء من أخبار الأنبياء والرسل في كتاب الله فهي بالدرجة الأولى تسلية لقلب رسول الله وتثبيت لفؤاده. قال تعالى: {وكُلًّا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.} وبالنسبة للأمة، تعليم وتفهيم وإرشاد يبنى عليه ضرورات الإيمان الواجب التعرف على أصحابه عند ذكرهم.
وقد تجاوز الكثير من الناس بعد أن ختم الله النبوة ببعثة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، أقول إنهم تجاوزوا شخص الرسول إلى التعلق بأشخاص جاءوا من بعده ومن بعد الخلفاء الراشدين المهديين. وهم - أي الناس - توجهوا مذاهب شتى في الشخصانية تلك بعد أن جهل أكثرهم القاعدة التي تقول: 'يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.' فانبرى البعض من العوام - أنصاف المتعلمين - إلى الاجتراء على السادة الفقهاء الأربعة المعروفين، وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل رحمهم الله جميعًا وأجز لهم الثواب، فقالوا عنهم وبكل صلف وغرور: 'هم رجال ونحن رجال.' ووضعتوا أنفسهم مقام أهل الاستباط والاجتهاد، وإن كان أكثرهم لا يعرف الناسخ من المنسوخ، وادعوا أنهم يريدون أخذ الآية والحديث مشافهة ومباشرة للحكم فيها متجاوزين أرباب العلم الذين كان لكل واحد وصف خاص يوسم به.
فأما أبو حنيفة فقالوا عنه: 'الناس عيال على فقه أبي حنيفة.' وأما مالك فقالوا عنه: 'لا يفتى ومالك في المدينة.' وعن الإمام الشافعي قال الناس: 'والإمام أحمد كالشمس للدنيا والعافية للناس.' وعن الإمام أحمد قالوا إنه يحفظ ألف ألف حديث، وهو المعروف عنه أنه إمام أهل السنة.
فينبغي إذًا بعد ما تقدم ذكره الوقوف عند الحدود ومراعاة القيود في منازل العلم وأهله من الأحفاد إلى أجداد الجدود. وهناك من تعلق من دعاة الصوفية بأذيال المسماة عندهم أولياء وأصفياء، والحديث القدسي يقول: 'أوليائي تحت قبابي لا يعلمهم غيري.' ومع الأخذ بالظاهر والحكم للكثير منهم بالتقوى والصلاح، فإن اتباعهم تجاوزوا كل الحدود في التعلق بشخصانية الولي من قبل مريديه واتباع طريقته، إلى حد الوصول إلى التقليد الأعمى وتبرير كل مخالفة شرعية لهم بحجة أنهم يملكون من العلم اللدني الذي أعطى بعضًا منه ربنا للعبد الصالح الخضر عليه السلام. ونقول هنا إن للخضر مقام خاص اختاره الله له وفي وقت معلوم وقوعه، ولا يصح تعميمه أو نسبة ذلك العلم الموهوب له لغيره إلا بحجة ودليل قاطع.
وإن من أعلام الصوفية من تجاوزوا كل حدود الكتاب والسنة، وبلغ ببعضهم الشطط أن قال بعضهم: 'نحن خضنا بحارًا وقف الأنبياء بشاطئه.' يقصدون أن منهم من سار على وجه الماء، بينما وقف سيدنا موسى عليه السلام ينتظر أمر ربه ليضرب البحر بعصاه. وتعسف البعض الآخر في معنى الآيات ليقف بعضهم عن العبادة احتجاجًا ببلوغه اليقين في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.} والمتفق عليه هنا أن المراد باليقين الموت.
وهناك من غير من ذكرنا صنف ثالث غلبت على أصحابه المذهبية المطلقة والمطبقة عليهم في التعلق بمقام خليفة من خلفاء المسلمين، ألا وهو سيدنا علي كرم الله وجهه، حيث إن التعلق بشخصه إلى حد الاستماتة والتحييد لغيره حتى لو كان نبيًا متقدمًا عليه، دفع القوم إلى التزييف والتحريف والمغالاة إلى حد الكذب في نقل جمع غفير من الأحاديث أو التأويل فيها مع التشدد والتعسف. وكل ذلك يجعل الدين سهل التناول والتداول والتلاعب من القوم الأبالسة.
نسأل الله أن يعرفنا بديننا حق التعريف وأن يهدينا إلى الحق وسواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
التصويب الإيماني بين المقام الرباني والنفاق الشخصاني
تحديات المرأة المسلمة في العصر الحديث وكيفية التصدي لها
مشهد غزة: عار للأمة أم صعود للقمة؟
البينونة الـمفتَعَلة بين دراسة الـنّصوص والعصور الأدبيّة
التكنولوجيا وأثرها على الأسرة بين الإيجابيات والسلبيات