صرح المولد.. من يبني فيه ومن يُفسد؟

لعلّ الذين يبنون ويبدعون في إحياء صرح مولد خير الأنام، سيد ولد عدنان محمد بدر الدُجى وكوكب الأرض والسماء بالتمام، عليه أفضل الصلاة والسلام، يتقدَّمون على مَن يحملون معاول الهدم والتشويه والتقويض والإبهام من أعداء هذا الدين، وما أكثرهم في القريب والبعيد من المكان. ويلتقي معهم ممّن هم من أبناء الأمّة في استعمال ما يُسمّى بإحياء السنة وإماتة البدعة، الذين يرفعون شعارات الوقوف وعدم الدخول بقصد التمسُّك بالدليل الشرعي بالنقاط والحروف.
سنتناول الصنفين معًا في مقالنا هذا، ومن ثم نقدم مَن هم أهلٌ للبناء ورفع اللواء ونصر خير من سار على الأرض وعرج إلى السماء. فأما الصنف الأول فهم من يكرهون الإسلام في أصله وفرعه، ويكرهون اسم من حمل الدعوة له منذ بعثته وحتى لقاء وجه ربه. فكيف يتسنّى لهم أن يستبشروا بذكرى مولده ونور وهجه؟ فهم وأجدادهم من صناديد الكفر والشرك مثل أبي لهب وأبي جهل ومَن لفَّ لفَّهم، وكان موغر الصدر في كره النبي وذكره. أقول إنهم جميعًا يمكرون للإسلام ونبيه من طلوع شمس نهارهم إلى عتمة الليل البهيم وحتى سطوع فجره. وهم أكثر دأبهم وديدن جهدهم أن يمحوا من قلوب الناس في طول بلاد الله وعرضها اسم محمد عليه الصلاة والسلام، إن استطاعوا. في ما ينادي به المنادي للصلاة ويذكر الناس بنبيهم في أوسط الآذان خمس مرات بالشهادتين، جامعًا اسمه مع اسم الواحد الديّان. ولما عجزوا عن ذلك، أخذوا مسلك التشويه والتحريف منهجًا في النيل منه والتجديف. فبثّوا في كتبهم المسمومة وأقلامهم السوداء وحناجر ألسِنتهم المحمومة أنّ نبي الإسلام رسول حرب وسفك دم، وعطش قطع رؤوس في الحروب بلا رحمة ولا رأفة، وأنه قام دينه بالسيف والبطش والغزوات والإكراه ودفع الجزية لمَن أبى، وكان في الصفوف الخلفية، وأنه حرم المرأة حقها وسلط عليها الرجل بالقوامة ومنع أن يكون هو وهي معًا بالسوية.
ولقد جهّز أعداء الدين، وما أكثرهم في العالمين، كل ما يملكون للنيل من سيرة خير عباد الله أجمعين. ووجدوا لهم خير معين: صنفين من الناس، أحدهما ممَّن ذكرنا في صدر مقالنا عنهما وهما دعاة ما يسمى بإحياء السنة وإماتة البدعة في الدين، وحجتهم في ذلك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام نفسه لم يدع إلى الاحتفال بمولده، ولم يدع أصحابه من السلف الأول لذلك. وهم أحق بذلك، فمن باب أولى أن لا يحيي المسلمون الأواخر، ونحن منهم، ما لم يحيِه الأوائل.
فنقول لهم وبكل إيجاز من القول وبلا حذف ولا فواصل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا أصحابه وأمته لما فيه تجديد التذكّر بمولده عندما حدّث عن نفسه ممّا يسمى في السُّنَّة بكل ما كان عليه، عليه الصلاة والسلام، من صفات ينبغي التأسّي بها وإثبات الذات. وأستند في إثبات ما أقول إلى ما يمكن عدُّه غريبًا من الاستشهاد في القول. وذلك عندما لا نجد ولا آية في كتاب الله تقول بنص القول: 'أنّ الله ربكم موجود'. وقصدنا في ذلك أن كل آيات التفكر والنظر والاستدلال كلها دالة على وجود الخالق. فلما ذكر ذلك بالنص والقول، ويكفي لنا الاستشهاد بقوله تعالى: {أفمَن يخلق كمَن لا يخلق أفلا تذكرون} [سورة النحل: 17]، فهي دليل من أدلة العقل قبل النقل في إثبات ما ينبغي الإيمان به واليقين فيه.
قياسًا على ما قلنا، فالله تعالى ورسوله لم يقولا لا بنص قرآني ولا بحديث نبوي: 'إذا حلّ يوم كذا من أيام الله، فأحيوا ميلاد صاحب الذكرى بالمديح والإنشاد والفرح والأهازيج، واسردوا سيرته بأجمل ما يكون الحديث'. ولكن مَن لا يعرف علم الاستنباط في الكتاب والحديث فليبحث عنه، ولهم فيه ألف برهان نفيس. وأكتفي بأربعة منها.
فلقد جاء من يسأل أحد العلماء عمّا يثبت أنّ القرآن فيه علوم كل شيء، وكيف يمكننا معرفه ذلك. فرد عليه العالم: نعم، إن ذلك كله موجود في آية واحدة. فقال: وما هي؟ قال العالم: قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [سورة النحل: 43]، ويقصد العالم باستنباطه هذا أن لكل علم أهله، وقس على ذلك.
وأما الدليل الثاني فما حفلت به الآيات في كتاب الله من ذكر سير الأنبياء والكثير من ذكر سير سيد الأنبياء والمرسلين، وكلهم تحمل في سردها إحياء ما ينبغي التذكير به والاعتبار منه، وليس ذلك سردًا يشبه أساطير السندباد. تعالى الله عن ذلك، وهو سبحانه يقول: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [سورة يوسف: 111]، فالعبرة لا تكون إلا بالاستذكار والتكرار.
والدليل الثالث قوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله} [سورة إبراهيم: 5]، فيوم مولد رسول الله من خير أيام الله، ولا يعقل أن يحتفل أدعياء السنة بمولد ملوكهم وذكرى عروشهم، ومن ثم يبدِّعون مَن يُحيي ذكر عبدالله ورسوله.
والدليل الرابع قوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [سورة يونس: 58]، ونقول هنا: أليس مولد رسول الله عليه الصلاة والسلام هو فضل من الله ومِنَّة؟ وهو سبحانه من قال بحقه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [سورة الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا يتلو عليهم آياته} [سورة آل عمران: 164]، فهو إذاً بشهادة الله عنه رحمة ومنه، والفضل موجود بينهما. ومن ثم أمر الله أن يفرح من نال هذا الفضل وهذه الرحمة وهذه المنّة، ولا أفضل فرحًا من أن يجتمع أصحاب الشأن في ذلك على ما ينبغي الاجتماع عليه، ويحيوا هذه الذكرى في كل ما تكرر ذكرها.
وأما الصنف الثاني ممن يمكن أن يستعين به أعداء الإسلام في تأليب أصحاب النفوس المريضة والضعيفة في تشويه معاني ذكرى خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، فنجدهم قد اجتمعوا في حديث عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: 'قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك'. فأما الصنف الأول فيجتمع فيه من دعاة العلم، أحدهما علم علماني عقلي حاقد، والثاني علم ديني قد استحوذ على صاحبه الشيطان بالتدليس والتلبيس، وكلاهما علماء سوء.
أما الصنف الثاني وهو الجاهل المتنسك، فهو من يحشو في مثل هذه المناسبات الكريمة الكثير من الأباطيل والضلالات، ويستحضر من أنواع الغلو ما أنكره رسول الله عليه الصلاة والسلام وحذر منه، فقال: 'لا تطروني كما أطرَت النصارى المسيح ابن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله' [رواه البخاري]. ويمتد هذا الإطراء المنهي عنه إلى الكثير من الاجتماع البعيد عن آداب النبوة والحديث، والغلو والتعفيس مما لا ينفع ولا يكون فيه مكان لصالح يحضر أو أي جليس.
ويبقى أخيرًا أن نقول: إن أصحاب البناء في صرح المولد لهم القسط الأوفر من مسك ختام الحديث، فهم من جمعوا السيرة بالتطبيق لأنفسهم ولغيرهم بالقدوة والتأسيس، وهم من يكرمون أنفسهم قبل أن يكرموا نبيهم الذي كرمه ربه، وقرن اسمه مع اسمه، ورفع له ذكره بعد أن شرح له صدره، وخصَّه بما لم يخصَّ أحدًا من عباده. وهو خير ما يمكن البناء عليه عند مرور عطر ذكر مولده. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
صرح المولد.. من يبني فيه ومن يُفسد؟
على منهج الرسول الأمين
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء التاسع
لعلّ الأوزاعي قد أخطأ
الطريق المأمول.. حتى لا نصير كالعجل المأكول!