رؤية إيمانية في ميزان الأقلية والأكثرية

لقد أرسل الله تعالى أول رسالة دعوة في أرضه بعد آدم وإدريس عليهما السلام. وكان أول من خاض غمارها وحمل لواءها سيدنا نوح عليه السلام، الذي امتد عمره مع عمر الدعوة إلى ألف سنة أو يزيد. وقال الله في معرض آيات الحديث عنه مع قومه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل} [هود].
ومع استمرار ذلك النهج مع كل الرسل إلى قومهم في إيمان الأقلية وتكذيب الأكثرية، فإن هذا يطرح سؤالاً يحتاج إلى جواب. وجوابنا منه نستمده بالدرجة الأولى من كتاب الله العزيز حيث يقول تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، وفي آية أخرى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}. فمن روح معاني هاتين الآيتين الكريمتين يمكن لنا القول أولاً إن في الآية الأولى يستنبط معنى أن أكثر أهل الأرض، في طبيعتهم ومعادنهم، هم أقرب إلى الضلالة في أنفسهم والإضلال لغيرهم. وقد وجدنا في سير المرسلين مصداق ذلك، حيث كان أكثر أقوامهم يجتمعون على محاربة الأقلية المؤمنة والطعن بها والاستخفاف بشأنها، ومن ذلك قول قوم نوح عليه السلام مما حكاه القرآن عنهم في خطابهم لرسولهم: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}، وقول جماعة فرعون عن أتباع موسى عليه السلام: {إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون}.
ويصل بنا القول إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، حيث إن الدعوة الإسلامية وقف بوجهها أغلب أهل مكة، في مقدمهم الشيب منهم قبل الشباب، من أمثال أبو جهل وأبو لهب، وهذين الصنمين الكبيرين في الكفر والصد عن دين الله كان لهما أتباع كثر يأتمرون بأمرهما وينفذون ما يريدون بدون تردد.
ولقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن كان السواد الأعظم من قومه وأهل بلده معاندين معارضين لدعوته إلى الله ودين الحق، صادين. ولكن الذي حدث أشار إليه القرآن في آية النصر حيث ذكر أن الناس سيدخلون في دين الله ليسوا أقلية أعدادًا بل أكثرية أفواجًا، بسم الله الرحمن الرحيم: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا}. وهذا يقودنا إلى القول إن الله تعالى لم يجعل العبرة في الكثرة لا في الدعوة ولا في الجهاد في أرض المعركة. فقد ربط الله نصر المؤمنين بالإيمان واليقين وليس بالعدد والعدة مع ضرورة الإعداد اللازم وبالقدر المستطاع، ومن ثم التوكل على الله لقوله تعالى: {وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}. وقد تحقق ذلك النصر وتلك الغلبة في أكثر معارك المسلمين مع عدوهم، ولما أعجبتهم في حنين كثرتهم واغتروا بها هزموا ونال أعداؤهم منهم، لقوله تعالى: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.
ولو أردنا ذلك المعيار بين الأكثرية والأقلية في معناها البشري العام بين الناس في حاضرنا أولاً، ومن ثم في الواقع الإسلامي المعاصر، فيمكن لنا القول إن المرء يجد عالمًا متسع الأطراف يجمع ملايين الناس قد اجتمعت كلمتهم على الكفر البواح والحياة المادية الصرفة بعيدًا عن أية أخلاقية أو إنسانية، حيث يغلب على أكثر الناس في تلك البلدان تأثر أكثرهم بما هو باطل وزهوق وتركهم ما هو حق، ولو كان اتباعه عدده محدودًا. فمن يصدق أن بلاد الهند الشاسعة بأرضها وعديد شعبها الغفير يمكن أن تتوقف عجلة الحياة في الطرقات من أجل أن تمر بقرة ويؤمن لها الطريق؟ ومن يصدق أن بلدانًا في أقاصي الشرق والغرب غير المسلمة تعيش فيها أكثر الناس عابدين للحجر أو للبشر بلا تفكر في الحق ولا أي تحريك في العقل أو أثر؟
ولو أردنا التحدث عن العالم الإسلامي ومقدار أثر الأكثرية في واقع الأمة مقارنة بالأقلية الصالحة التي لا تخلو منها، لوجدنا حرب الجهاد في غزة أفضل ما يمكن الاستشهاد به مثالًا مع الأعداء أولاً، ومن ثم مع أبناء الدين الواحد ثانيًا. فأما مع الأعداء، فقد شاهد العالم حقيقة تقدم الأقلية على الأكثرية في ميزان النصر الحقيقي، حيث إنه في عام 1967 استطاع العدو اليهودي أن يدمر مطارات دول المواجهة معه في مصر وسوريا في ست ساعات ويحتل جزءًا كبيرًا من أراضيها في سيناء والجولان، ولم تستطع جيوش تلك البلدان الجرارة أن ترد عدوها وتحفظ كرامة دينها وشعبها. وأما في غزة، فلم يستطع جيش العدو الغادر بما خلفه من دعم مادي وعسكري من أكثر قوى الكفر في الأرض أن يزيل شعبًا محدود العدد في أرضه وأراضي أجداده المباركة، ووقف هذا الشعب الصغير العدد في غزة الأبية يواجه أكثرية الكفر اليهودي الحاقد ومن يسانده من عالم الكفر الصليبي، يواجهه باللحم والدم وشرف الدين والأرض والعرض.
أما ميزان الأقلية والأكثرية في واقع الأمة ذاتها، فإن مليار مسلم أو يزيد تملك البشر والذهب الأسود وتملك كل مقومات النصر والتمكين، هي في واقع ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها". قالوا: "أومن قلة نحن يا رسول الله؟" قال: "لا، أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل". ويقابل تلك الكثرة الفارغة الأثر والتأثير فئة مؤمنة ثابتة على الحق مع عددها القليل تواجه الباطل أينما كان حتى يأتي الله بأمره. مصداقًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله". قالوا: "أين هم يا رسول الله؟" قال: "في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس" (رواه مسلم).
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
رؤية إيمانية في ميزان الأقلية والأكثرية
الشهيد الصالح يلتقي مع الشريف
اعتماد الإنسان على الذكاء الاصطناعي: منظور إسلامي
التصويب الإيماني بين المقام الرباني والنفاق الشخصاني
تحديات المرأة المسلمة في العصر الحديث وكيفية التصدي لها