موظفة بدون راتب
لماذا يَستهين الناس بمهنتي الأصلية ووظيفتي الأساسية "الأمومة"؟ سؤال أضحَى يُحيِّرني، ويؤرِّقني، وما زلت أفكِّر فيه وأبحث له عن جوابٍ هنا وهناك، حتى عثرتُ على ضالتي، واهتديت إلى السبب: "الناس يُقوِّم بعضهم بعضًا بالمادة، فكيف والأمر كذلك يَجعلون لوظيفتي وزنًا وأهمية وهي مِن دون راتب؟ كيف؟!" فالناس، إلا قليلاً منهم، لا يهتمُّون كثيرًا بطبيعة المِهنة أو الوظيفة، ولا بمردودها المعنوي؛ لذلك لا يعبأ أحد بأني أقوم بمُهمَّتي بشكل جيد مُرْضٍ، إنما يَهتمُّون بجدواها الاقتصادية، ونظرًا لأنني لا أتقاضى على عملية تربية أولادي وتوجيههم أي راتب، ولا علاوات، ولا حوافز، ونظرًا لأن مهنتي دون تقاعُد، ودون جوائز تقديرية؛ كانت مهنتي حقيرة، ووظيفتي وضيعَة عندهم، لا قيمة لها.
وتوضَّحت الصورة لديَّ أكثر وأكثر عندما حثَّني بعضهم على استثمار جهودي في التدريس؛ لأن له عائدًا ماديًّا كبيرًا، ونصحَني باستقدام خادمة تقوم بوظيفتي مقابل ألف ريال! "أمومة" بألف ريال! سعر بخس لا يستحِقُّ الجهد الذي أبذله، ولا يَتلاءم مع حجم وأعباء الوظيفة، وفهمتُ عندها - بعمق سبب وضاعة مِهنتي، فوظيفتي التي ظننتُها لا تُقدَّر بمال، تبيَّن أنها تُساوي ألف ريال لا غير!
ولكني لم أقتنع بهذا الكلام؛ فمِهنتي ما زالت في رأيي لا تقدَّر بمال ولو قدرها الناس بألف ريال، فالكسب المادي ليس كل شيء، والقيمة في الإسلام للعمل ذاته كما نعرف، ومع ذلك أخذ الإسلام المادة بعين الاعتبار وجعَل لبعض الأعمال أجرًا، ولعلَّ النفقةَ التي أوجبها الله للزوجة وللأولاد هي مِن هذا القبيل، فهي راتب أو أجر تتقاضاه المرأة لقاء عنايتها ورعايتها لزوجها وأولادها، وكأن الزوج والزوجة مُتشارِكان في مشروع واحد بموجب عقد الزواج، فهما يتشارَكان في البيت والطعام والمال... وتربية الأولاد، وفي الهموم والآمال! ولكن بحصص مختلفة، فهما يتوازَعان المسؤوليات، ويتقاسَمان الأرباح - التي هي دخْل الزوج تبعًا لهذه الحصص.
وكأن الزواج شركة مُضارَبة بين رجل وامرأة، والشركة لغة: "عقد بين اثنين أو أكثر للقيام بعمل مُشترَك"، وقد عرَّف الفقهاء "شركة المُضارَبة" بأنها "شركة بين طرفَين يدفع أحدهما إلى الآخر مالاً ليتَّجر فيه، ويكون الربح مُشتركًا بينهما بحسب ما شرَطا، أما الخسارة، فهي على ربِّ المال وحده"، فهي إذًا شركة بمال من جانب، وعمل من جانب.
وكذلك الحياة الزوجية؛ كل طرف فيها يقدِّم شيئًا؛ الزوج يقدم جزءًا من راتبه الشهري مقابل ما تقدمه الزوجة من جهد، وما تبذله من رعاية وعنايةٍ به وبأولادهما، أي: إن الزوج يقدِّم المال، والزوجة تقدِّم العمل، وقد أحلَّ الشرع أن يقدِّم طرفٌ المالَ وآخَر الجهد، وما وجد غضاضة في هذا، فما عاب على رب المال القعود عن العمل، ولا انتقص من جهد العامل ولا قلَّل من عمله لأنه لم يقدِّم مالاً، بل احترم الإسلام قدرات الناس وظروفهم واختصاصاتهم، وشجَّع كل فرد على التقديم قدر استطاعته.
لكن الزوجة لا تُتاجر بالمال المقدَّم لها، ولا تُنمِّي المال المُنفَق عليها، إنما يُقدَّم لها المال لتَستثمِرَه في مشروع آخر مُهمٍّ (لا تقلُّ أهميتُه عن أهمية عروض المال والتجارة)، ولتقدم للمجتمع شيئًا يتكامل مع المادة (وربما كان أثمن منها)، فتقدم لزوجها الهدوء والسكينة؛ ليتقدَّم في عمله، وتقدِّم للمجتمع "الإنسان" أداة التفكير والبناء، فتُحوِّل بعملها وجهدها الطفل الذي لا يفقه شيئًا إلى رجل عابد مُجاهِد عالم نشيط مُجدٍّ.
♦ ♦ ♦ ♦
والزوج هو الذي يتعامل مع المال، فيكون موظَّفًا معروفًا راتبُه، يتقاسَمُه مع أهل بيته كل شهر، أو يكون تاجرًا مُتأرجِح الدخل، فإن خسر أمواله في تجارته، لم تتحمَّل الزوجة شيئًا من خسارته ولو كانت غنية، وإذا ربح كانا - كلاهما شركاء في الرِّبح، من أجْل ذلك كان على الرجل كما جاء في القرآن والسنَّة والإجماع أن يُنفِق على زوجته من سَعته، و"السَّعة" كلمة عامة تدلُّ على أن النفقة مُتساوية طردًا مع القدرة، فكلما زاد الزوج يَسارًا، زاد ما ينبغي عليه إنفاقه على زوجته؛ فالمال له ولها، وعليه أن يُطعِمها مما يأكُل، ويُلبِسها مما يلبَس كما جاء في الحديث.
ثم إن للعرف دورًا في هذا الأمر؛ ولهذا تتمتَّع النساء اليوم بأكثر من الطعام والكسوة والسكن، فهن يَشترين من الملابس والزينة والمَتاع زيادة عن حاجتهنَّ، ويأخذن من المال زيادة عما يلزمهنَّ حقيقة، والنساء يتمتَّعن اليوم بكافة الحقوق المالية، ولبعضِهنَّ مصروف خاص يَقتطِعنَه كل شهر، ومنهنَّ مَن تسحب من زوجها عن طيب نفس منه ومِن دون حساب، وتقوم نساء أخريات بمُساعدة أزواجهنَّ في الكسب، ولا يجد الزَّوج غضاضة في ذلك، ولا تَثور كرامته؛ لأنه يعلم أن الحياة الزوجية تقوم على الودِّ والمرحَمَة.
فلمَ نعكس الموازين ونقلِبَ الأمور؛ فتتحرَّج الزوجة من النفقة وهي حق لها، ويتقبَّل الزوج صدقة زوجته وهي منَّة وتفضُّل منها؟!
♦ ♦ ♦ ♦
لقد ألزم الإسلام الرجلَ بالعمل للتكسُّب، ولم يُلزِم المرأة؛ لأن لها عملاً آخَر لا يقلُّ أهمية عن عمل الرجل، وعملها يَحتاج إلى تفرُّغها، ويَحتاج كل طاقتها وجهدها؛ من أجل هذا ألزم الفقهاء الزوج بالنفقَة مهما كان حاله ولو اضطرَّ إلى الاستدانة، وأوجَبوا على الزوج أن يؤمِّن لزوجتِه السكن ونفقةً مُساويةً لما كانت عليه قبل الزواج، أو نفقة مَثيلاتها، فالشرع حابَى المرأة وفضَّلها في هذه النقطة، لكن المُعتقَدات القديمة ما زالت تُحدِث بلبلة وتشويشًا، فظنَّت بعض النساء أن قعودهنَّ عن العمل مَنقصة، وأنهن يكنَّ - بقعودهن - عالة على المجتمع، وعالة على الزوج! فسعَين إلى الكسب، وصِرنَ يتعفَّفن عن قَبول النفقة!
وليسَت النفقة صدقة من الزوج على زوجته حتى تتعفَّف عنها الزوجة، وهي ليسَت نبلاً وكرمًا وتطوعًا منه لترفضَها وتخرج لتأكل وتلبس من كدِّها وكَسبِ يدها، بل هي حق أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها بسبب عَقدِ الزواج، وقد اتَّفق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة، مسلمة كانت أو كافرة بنكاح صحيح، وهي شرعًا: الطعام والكسوة والسُّكنى، والخدمة إن لزمتها، وآلة التنظيف ومتاع البيت، كلٌّ يُنفِق بقدر سعته ومقدرته؛ لذلك:
(1) كان للزوجة أن تأخذ نفقتها بنفسها من غير عِلمه إن لم يُعطِها إياها.
(2) وسمحت لها الشريعة بطلب التفريق لعدم الإنفاق.
(3) ويجوز لها - إن توقَّف الزوج عن الإنفاق - الامتناع عن طاعته دون إثم أو حرج، حتى يُنفِق عليها من جديد.
وعلَّلت كتُبُ الفقه وجوب النفقة على الزوجة بما يلي:
"المرأة محبوسة على الزوج بمُقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرُّف والاكتساب لتفرُّغها لحقه، فكان عليه أن يُنفِق عليها، وعليه كفايتها... فالنفقة جزاء الاحتباس، فمَن احتبس لمنفعة غيره، وجبَت نفقته في مال الغير"، فالمرأة في بيتها كالعامل أو الموظَّف تُقدِّم عملاً تستحق عليه أجرًا، هو النفقة، وكأن الرجل موظَّف في عمله، وهي موظفة عنده تعمل في الشركة التي أسَّساها معًا يوم وقَّعا عقد الزواج، فلماذا لا يجد العامل ولا الموظَّف بأسًا ولا منَّة في الأجر الذي يتقاضاه، وتجد المرأة ذلك؟!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!