مطبخ السياسة .. ومنهج القرآن في السياسة الشرعية.. الجزء الثاني

وضع القُرآن للمُسلم في باب مَنهجًا واضحًا، يضبط مواقفه وسلوكه، ويقفه عند حدّ لا يتجاوزه، وهو يتمثّل في الحقائق القرآنيّة التالية :
يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}[الإسراء:36].
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحُجُرات:6].
ويقول جلّ وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}[النساء:59ــ61].
ثمّ يقول الله تعالى بعد آيات: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65]
وفي وقت الحرب والظروف الخاصّة التي تمرّ بها الأمّة يصبح خطر الكلمة أكبر من كلّ خطر، ولا يقلّ عنها خطرًا نقل الأخبار المُغرضة والكاذبة وإشاعَتها، وفي التحذير من ذلك يقول الله تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا}[النساء:83].
وهذه الآية الكريمة فذّة في كتاب الله تعالى في بابها، وما نحن فيه، فلا مثيل لها في موضوعها؛ الشرعيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، وذلكَ أنّها تحدّثت عن الأَمنِ والخَوفِ، وعن النصّ والاجتهاد، وعن إذاعةِ الأخبَار ونَشرها قبل معرفة حقيقتها، والوعي في تفسيرها.. فلنقف باختصار عند أهمّ حقائقها:
فلا يخفى أنّ بين الأَمنِ والخَوفِ تناقضًا وتباينًا، يجعل المَسافة بينهما بعيدة بعيدة، لتمنحهما شمولًا لا يحدّ.. فهما على طرفي نقيض، وبينهما مسافات وتباينات، ومتاهات من الأحوال والمَواقف المُتناقضات، فاسرح بخيالك وراء تعداد ذلك، وما وراءه من النتائج والآثار وتقلّب الأحوال، ولن تبعد النجعة في ذلك، ولن تسرف في القول.
واختيار القُرآن للفظتي الأَمنِ والخَوفِ مُعجز بحدّ ذاته، إذ لا شيء سواهما مُغن عنهما في هذا المَقام، لمَا فيهما من التعبير عن الحالة النفسيّة لمُتلقّي الخبر، المُتلهّف على معرفة الحقيقة، المُضطرب في الفهم والتحليل، المُتفاعل معه في جوّ متوتّر، وظرف خاصّ، وبيئة مشحونة بالقيل والقال، وكثرة الجدال، وتضارب الدعايات والتحليلات والأخبار، ومعلوم كيف يكون حرص الإنسان الفطريّ على أمنه، وخشيته التي قد يبالغ فيها كثيرًا من كلّ مخوف يتعرّض له.. وكثير من الأحوال العامة ترجع بمَآلاتها إلى حال الأَمنِ الذي يحرص الإنسان عليه، ويبحث عنه، أو الخَوفِ الذي يخشاه ويتّقيه.. فكانت الكلمتان في هذا المَقام معجزة من معجزات البيان القرآنيّ، كمفتاح البيت المُغلق، الضائع مفتاحه عن الكثيرين.
وفي هاتين اللفظتين أيضًا تصوير للحالة الاجتماعيّة من الاضطراب الذي قد تمرّ به الأمّة، وفيها كثير من الفوضى واستغلال الأعداء، وكلّ ذلك يقتضي ويوجب بما لا يدع مجالًا الوعي والانضباط وراء توجيه القيادة التي تقود المَشهد..
وأمّا النصّ والاجتهاد : فهما مُتداخلان مُتكاملان في فهم الأمر الشرعيّ والتكليف، وفي وعي الواقع وتفسيره في ضوء النصّ والاجتهاد ؛ النصّ يقدّم الثابت الراسخ، الذي هو محور الأمر والمَنهج، الذي لا تُقبل الحيدةُ عنه بأيّ اعتبار أو مبرّر.. والاجتهاد الذي هو معترك العقول والأفهام، وساحة الإقدام بالتوسيع في الفهم أو القصور والإحجام.. ولكلّ ميدان فرسانه، ولكلّ خيّال خَيلُه ورجالُه، وليس لأحد أن ينازع الأمر من هو أهله: {كُلًا نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20].
وبين التوسيع في الاجتهاد والإحجام عاشت الأمّة بحبوحة من الرحمة العمليّة، والتنوّع في العطاء الفكريّ الرحب، في ظلّ أمن نفسيّ ومُجتمعيّ، لم تنعم به أمّة من أمم الأرض من قبل.. ومَن ذا الذي يكون على هذه القدرة العلميّة إلاّ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ، بوصف الله عزّ وجلّ، وهم أهل الذكر، الَّذِينَ زكّاهم اللهُ جلّ جلاله بقوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وما بعد هذا الفَضْل العظيم من اللهِ وَالرحمَة السابغة إلاّ التخبّط واضطراب حبل الأمّة، واتّبَاعُ الشَّيْطَانِ والسيرُ في مهاوي الاختلاف والضياع.
ومن هم {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.؟! إنّهم أهل الفِقهِ بدين الله تعالى بحقّ، لا مجرّد العلم الظاهر، من الذين يحفظون حروف النصوص ولا يعون حقائقها ومقاصدها.. {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} هُم الذين جمعوا بين الفِقهِ والبصيرة في الدين، التي لا تكتفي بقراءة الحدث، بل تقرأ ما وراءه، من الأسباب والعلل، والدوافع والمُؤثّرات الذين يجمعُونَ بين المُتَماثل والمُتشابه، والمُتقارب والمُختلف، ويكتشفون الخفايا من لحن القَول وفحواه، وأساليب التلاعب بالحروف والمُصطلحات، ويحسنون القياس الصحيح، والاستحسان العميق، ويستنبطون العِبرَ من وقائع التاريخ، ومستجدّات الحاضر، ولا يخدعون بالدعاوى والمَظاهر، ويفقهون سنن الله تعالى في الخلق والأمر..
ثمّ أهل الاستنباط بحقّ لا يخرجون عن الشورى العلميّة لعلمائهم وأئمّتهم، وإخوانهم المُعاصرين، بغية الإحاطة بالمَسائل من أطرافها، وإعطاء الفقه حقّه من التدقيق الشامل، والبحث المُستقصي، مُستعينين بالله جلّ وعلا في كلّ شأن.
إنّهم ندرة في كلّ زمان ومكان، وأعلام في كلّ عصر، وهم أمناء الله تعالى على دينه وشرعه، يضع الله تعالى لهم القبول في الارض.. وأولى بكلّ طالب علم، أو مُثقّف على اهتمام بالشأن العامّ إن لم يكن على حظّ من هذا السمت، أن يلزم حدّه ولا يتعدّاه، ويعرف الفضل لأهل الفضل، ولا يتجرّأ على دين الله.. والحمد لله أوّلًا وآخرًا..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مطبخ السياسة .. ومنهج القرآن في السياسة الشرعية.. الجزء الثاني
فنّ التربية الإسلامية
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثامن
مَطبخ السياسة.. ومَنهج القُرآن في السياسة الشرعيّة..!
العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة - الجزء الثاني