مَطبخ السياسة.. ومَنهج القُرآن في السياسة الشرعيّة..!

إنَّ السياسَة تبدأ من إدارة الإنسان نفسه، وتقويمها وتهذيبها، فهذا مما يجب على كلّ إنسان ويتعيّن، لأنّه مسئوليّة المَرء الأولى أمام ربّه تعالى. يقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وما بعد هذه السياسَة للنفس وإدارة شأنها، وشأن من يسأل الإنسان عنه أمام الله تعالى يختلف حكمه من إنسان إلى آخر، ومن حال إلى حال.. وهناك جانب عامّ، يتعلّق بحال الأمّة وشأنها العامّ، دخول الأفراد فيه قولًا أو فعلًا، هو نوع من العبث والفضول، والتدخّل فيما لا يعني، وقد يصل إلى درجة التحريم والوقوع في الإثم.. ورحم الله امرءًا، عرف واجبه وزمانه، فطابت سريرته، واستقامت سيرته، واشتغل بما ينجيه عند ربّه..
والعمل في السياسَة العامّة للأمّة قولًا أو فعلًا هو كالعمل في المَطبخ.. فهل يحقّ لكلّ إنسان أن يدخل المَطبخ في بيت مُضيفه، ويتقدّم للعمل بدون إذنه وموافقته؟
مَطبخ السياسة: وللسياسة على وجه العموم مطبخ، محلّيّ، وإقليميّ، ودوليّ، له ظاهر مكشوف، وباطن مختلف، لا يعلم خفاياه إلاّ قلّة قليلة من الناس.. وأكثر الذين يتكلّمون عنها من خارج مطبخها يتكلّمون بظنون وتحليلات، وبغير علم، فيخطئون أكثر ممّا يصيبون، ويضلّلون من يثق بهم، ويركن إلى تحليلاتهم وآرائهم، ونقدهم واقتراحاتهم، وربّما اتّهاماتهم وافتراءاتهم.. والمُؤمن الحقّ في غنى عن ذلك كلّه، بما وضع الله تعالى له من منهج الحقّ في العلم والتثبّت، والحذر من القول بغير علم ودليل..
وأكثر الذين اطّلعت على كلامهم وتحليلاتهم من هؤلاء رأيتهم يتكلّمون بما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويدّعون دعاوى عريضة، ليس وراءها شيء من العلم، وما معها أدنى دليل، ويسوّقون أقوالهم وتحليلاتهم مَساقَ القطع واليقين، وهم لا يملكون شيئًا من أدوات القطع واليقين، فيفسدون ولا يصلحون، ويشوّشون عقول من يثق بهم، ويذهب مذهبهم.. والأسوأ من ذلك كلّه إذا كان أحدهم طويلب علم، بعيدًا عن الواقع وحقائقه وخفاياه، مشتغلًا بزاوية من زوايا العلم أو التعليم، فيعطي أحكامًا قطعيّة عن الواقع، ويفتي بفتاوى، يشوّش بها الناس، ويطلقها بغير خطام ولا زمام، ولا دليل له عليها ولا برهان، اللهم إلاّ الظنون والأوهام، فيهلك نفسه، ويهلك مَن وراءه.
وهذا لا يعني أن يكون الإنسان مُغيّبًا عن الواقع، غير واعٍ بما يجري حوله، وبخاصّة من كيد الأعداء ومكرهم، وما يبيّتون من المُؤامرات، وخطط الإجرام والإفساد في الأرض.. ولكنّ العلم شيء، والدخول في معترك السياسة، بالقيل والقال، والنقد والتحليل، والاتّهام والتخوين، هذا شيء آخر.. أمر له أدواته ومؤهّلاته، وخفاياه وأسراره، التي لا يحيط بجزء منها، إلّا من خاض في هذا المُعترك بجدارة، وتخصّص فيه وتأهّل.. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، ولزم حدَّه..
إنّ مطبخ السياسة بكلّ دوائره وعلاقاته أعقد ممّا يتصوّر كثير من الناس ويتوهّمون، فيتسرّعون ويتكلّمون بغير علم، وبعضهم تراهم يتراجعون بعد قليل، ويعترفون بخطأهم، هذا إذا كانوا يحترمون أنفسهم، ويحترمون من يقرأ لهم.. وغيرهم يصرّ على أخطائه، ويستزيد منها ولا يبالي، ولا يراجع شيئًا من منهجه وأسلوبه ومعلوماته..
ولقائل أن يقول: وكيفَ لنا أن نسكت عمّا نراه خطأ بيّنًا تقع فيه الإدارة الجديدة، ونحن نعد أنفسنا من أبنائها، نغار عليها، ونخشى أنْ تقع في أخطاء تفضي بها إلى انتكاسات لا تحمد عقباها..! فأقول: إنّ الإسلام وضع منهجًا للعلاقة بينَ الحاكم والمَحكوم يقوم على النصح المُباشر، بشروطه وآدابه، بعيدًا عن الغلظة والتشهير، أو بإيصال النصح عن طريق الجهات المَوثوقة القريبة منه.. أمّا الكتابة العامّة في الفضاء الأزرق، فما تفسده أكثر ممّا تصلح، وهي تجرّئ الجهلة ومن في عقله عوج، وفي قلبه مرض على التطاول والإساءة.. وهو أمر مشهود ظاهر لا يحتاج إلى دليل..
وهناك أربعة أمور تنتظم بها علاقة الحاكم بالمَحكوم:
- السمع والطاعة في المَعروف، وفي المَنشط والمَكره.
- والنصح لما ينبغي أن يكون من الخير.
- والنقد لما هو كائن من الأخطاء.
- والنهي عمّا هو واقع من الظلم على الضعفاء خاصّة، ومن لا يستطيع إيصال ظلامته لوليّ الأمر..
ثمّ إنّ على الحاكم المُسلم أن يفتح صدره وبابه لاستقبال نصح الناصحين، وأن يجعل له أعوانًا خاصّين يبثّهم بين الناس لهذه المُهمّة.. والإسلام يوجب الأدب مع الحاكم بما يحفظ هيبة الأمّة، ولكن لا يفرض له قداسة، تجعله فوق النصح والنقد، وتفضي به إلى الاستبداد على الناس..
وللحديث بقيّة.. والله وليّ السداد والتوفيق..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مَطبخ السياسة.. ومَنهج القُرآن في السياسة الشرعيّة..!
العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة - الجزء الثاني
سوريا إلى خير
أسباب تخلّف المسلمين: تحقّق وتبيين
النسوية.. واقع وتوجّه