من الغثائية إلى التمكين
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكَلة على قصعتها" قلنا: يا رسول الله أَمِن قِلّة بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل..." رواه أحمد وأبو داود، وهو صلى الله عليه وسلم القائل: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا عاضّاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت" رواه أحمد.
إذاً... الشرط الرباني للانتقال من مرحلة الغثائية إلى مرحلة التمكين هو: منهاج النبوة.
وبما أن الثورات في العالم العربي براكين ما زالت تتفجر في وجوه الطغاة، وتتمدّد حِمَمُها لتشمل كل الذين ساموا الشعوب ألوان العذاب... فلا بد أن يكون لهذه الثورات محددات وأُطُر يرتضيها الله، حتى يكتب لها عز وجل الانتصار والتمكين في الأرض: {إن تنصروا اللهَ ينصُركم ويثبِّت أقدامَكم}.
وإذا بلغ الثائرين أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإذا ما عرفوا بأن أمر أوّلها كان قرآناً يَحكم وسُنةً تُتّبع، فعليهم أن يحددوا وجهتهم حتى لا تتبعثر الجهود وتجذبها السبُل في كل اتجاه، فتضيع الأهداف، وتنتقل الشعوب إلى دائرة جديدة من الدفع.
ولعل ابتلاء هذا الجيل الثائر يكمن في العودة بالناس إلى حكم الله حتى يُمكَّن للأمة؛ حينما سُئل الإمام الشافعي: أيُمكَّن للعبد أم يُبتلى؟ أجاب: لا يُمكَّن حتَّى يُبتلى! وقد قال الإمام سفيان الثوري: بالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين، وذكر قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمَّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
وعليه فإن مهمة جليلة بانتظار هذا الجيل هي تحقيق شروط التمكين التي بيّنها الله بكلام جامعٍ مُعجِز حين قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55)؛ فالشروط واضحة: الإيمان بالله مقترناً بالعمل الصالح، والعبادة الخالصة لله، الخالية من الشرك بأنواعه وأشكاله وتصوّراته.
وهذه بشرى الحبيب صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة: "بشِّروا هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة والنصر والتمكين في الأرض" رواه أحمد. ولهذه المكتسبات أثمان باهظة لا بد من دفعها حتى يعود لهذه الأمة عزُّها وسؤدُدُها؛ فيكفيها ما دفعته من أثمان الذل منذ تنحية تحكيم الشريعة عن واقع الحياة. وفي هذا المعنى كتب سيد قطب مقالة رائعة بعنوان: "ضريبة الذل"*، أقتبس منها:
"لقد شاهدتُ في عمري المحدود - ومازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تُبْهِظ كواهلهم (أي: تُثْقِلُها، وتَشُقُّ عليها)، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم... ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلِّموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاّد!!
لقد شاهدتُهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً، ولكنهم يختارون العبودية... شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلِّفَهم درهماً، وهم يؤدّون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليُرضوا صاحب جاه أو سلطان... وهم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه والسلطان! لا، بل شاهدت شعوباً بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، ولا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، وقديماً قالت اليهود لنبيِّها: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} فأَدَّتْ ثمن هذا النُّكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء... وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال.
إنه لا بد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدَّى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدّى للذِّلة والمهانة والعبودية، والتجارِب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفرّ منها، ولا فِكاك"!!
رحم الله الشهيد – بإذن الله – سيد قطب، لو عايش ثوراتنا لشاهد كيف أن الشعوب تنبّهت إلى هذا المعنى الذي أشار إليه منذ عام 1952 فاختارت أن تدفع ضريبة العزة والكرامة والحرية، في الوقت الذي ما زال فيه حكامها ومشايخ السلاطين يدفعون ضريبة الذل والعبودية لغير الله، إلى الدرجة التي يستنجد فيها "مجنون ليبيا" بالكيان الغاصب، ويخوِّفه من حكم الإسلاميين إذا ما هزمه الثوار، ويقول للصهاينة صراحة إن بقاءه في السلطة ضمان لأمن "إسرائيل" و"أوروبا" و"أمريكا"... وإلى درجة أن تصدر فتاوى بحرمة المظاهرات وحرمة الخروج على ولي الأمر الخارج عن الشريعة المحادّ لديه الله عزّ وجلّ... ففي الوقت الذي تعيش فيه الشعوب أفراح انتصاراتها وتتنسم هواء الحرية، اعتاد هؤلاء استنشاق أنفاس ملوثة سدّت عليهم منافذ التفكير السليم.
وهنا يبرز دور العلماء العاملين الأحرار في توعية شباب الأمة وفي ربط الناس بمنهج الله تعالى، وفي حملهم وإعانتهم على تحكيم شريعة الله، وهذا دونه جهود جماعية مرجعيتها الكتاب والسُّنة وما عليه سلف الأمة من خير القرون وفَهم عميق ودقيق للواقع، ودونه أيضاً أموال وأوقات ودماء... لكنه ممكن غير مستحيل بإذن الله تعالى:
وإذا كانت النفوس كِبَاراً
تَعِبتْ في مُرادها الأجسادُ
*ذكر الكاتب السياسي فهمي هويدي أن سيد قطب كتب هذه المقالة في منتصف يونيو 1952م، وبعدها بخمسة أسابيع قامت ثورة يوليو1952 في مصر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن