حقوق الإنسان.. بين الحجّ وأنظمة الطغيان
عندما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم - في التاسع من ذي الحجة من عام 10 هـ فيما سُمي بـ "حجة الوداع" - الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، لم تكن هناك أمم متحدة، ولا مجلس أمن، ولا مؤسسات دولية... بل كان عالَم يغرق في ظلمه وظلامه وجهله ووثنيته!
ففي هذه الوثيقة الخالدة أَمِن الإنسان على نفسه وماله وعِرضه، وأَمِنت المرأة تحديداً على مكانتها في المجتمع الإسلامي...
وهذه مقتطفات✽ مما قاله صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تَلقَوْا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وستلقَون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم... وقد بلّغتُ؛ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون؛ قضى الله أنه لا رِبا... أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً... فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بالنساء خيراً... إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، الناس بنو آدم، وآدم من تراب... أيها الناس: إن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه... فلا ترجعُوا بعدي ضُلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض... ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد».
إنها حقوق الإنسان التي عجزت الأمم المتحدة عن تحقيقها على أرض الواقع، في حين جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أساسيات الحياة... وإنه "الأمن" على الأنفس - وكل ما يتصل بها - الذي يعجز "مجلسه" عن توفيره للشعوب خاصة الإسلامية منها؛ وذلك رغم كل الاتفاقات والعهود والمواثيق الدولية، ورغم كل الدراسات الإنسانية التي تُجريها الأمم المتحدة بهذا الشأن؛ فقد خلص التقرير الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 1999 بعنوان: «عولمة ذات وجه إنساني» إلى أن هناك سبعة تحديات أساسية تهدد الأمن الإنساني في هذا العصر:
- عدم الاستقرار المالي.
- غياب الأمان الوظيفي وعدم استقرار الدخل.
- غياب الأمان الصحي.
- غياب الأمان الثقافي.
- غياب الأمان الشخصي.
- غياب الأمان البيئي.
- غياب الأمان السياسي والمجتمعي.
والسؤال الأهم: ما الخطط الحقيقية التي تُزيل كل تلك التحديات المهدِّدة لأمن الإنسان المصادِرة لحقّه في أن يعيش حراً كريماً آمناً؟ وما الإجراءات العملية التي تنفَّذ من خلالها كل الاتفاقات الدولية الصادرة بشأن حماية الإنسان وحقوقه؟
في الحقيقة إن الأمم المتحدة مع كل الضجة التي تثيرها بشأن الإنسان لا تتقدم خطوة بهذا الاتجاه، بل إنها تُسهم بمزيد من مصادرة أمن الشعوب المستَضعفة لصالح الأطراف الأقوى...
فأن يعيش الإنسان آمناً في مجتمعه، يعني أن لا يُصادَر حقه في العيش الكريم بكل متطلّباته، لذلك كان أول وعد من الله للمؤمنين بعد الاستخلاف والتمكين: توفير الأمن، قال تعالى: {وعَدَ اللهُ الذين آمنوا منكم وعَمِلوا الصالحات لَيَستخلِفَنّهم في الأرضِ كما استخلَفَ الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنّ لهم دينَهمُ الذي ارتضى لهم ولَيُبدِّلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبُدونني لا يُشركون بي شيئاً ومَن كفَرَ بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقّق الأمن من أول وأهم أسباب تمام حياة الإنسان: "من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيْزت له الدنيا بحذافيرها" في إشارة إلى ضرورة تحقق الأمن الاجتماعي والغذائي والصحي للإنسان... وجميعها تفتقدها معظم الشعوب اليوم في دول العالم الثالث... ومن مَظاهِر افتقادِها أن الأنظمة العربية جعلت من ترويع شعوبها وتكريس الخوف في حسِّها "سياسة" تضمن ديمومتها، حتى أصبحت كل استخدامات كلمة "أمن" تثير الفزع لدى المواطن وتحمل نُذُر شؤم على كل من تطاله أحد أذرعتها: أمن الدولة، جهاز الأمن، قوات الأمن... فالأنظمة بحجة حفظ الأمن الوطني والأمن القومي تُحصي على الشعوب أنفاسها، وتصادر حريتها بهذا النظام "البوليسي" الذي تفرضه عليها؛ فلا حرية بدون الشعور بالأمن، ولا حقوق بدون تحقق الأمن أولاً...
لذلك كان مبدأ أمرِ ثورات الشعوب العربية: كسر حاجز الخوف. ولعل كفار الجاهلية رغم عدائهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر رُقياً في التعاطي مع هذه المسألة... إذ عندما علمت قريش بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة وأرادت قتله صلى الله عليه وسلم تجمهروا أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال انتظارهم، وهَمّ قومٌ منهم أن يدخلوا عليه الدار، فأطلقها أبو جهل مُدَوِّية على شدة جهله وكفره: لا تدخلوا البيت... أتريدون أن يقول العرب روَّعنا بُنيّات محمد؟! فكم من "البُنيّات" و"البنين" من أمة محمد يُرَوَّعون في ظل أنظمة القهر والقمع العربية؟!
وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يدرك أهمية الأمن فيجعله في دعائه قرينَ التوحيد الخالص: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، وذلك بعد أن أودع زوجه هاجر وابنَه نبيَّ الله إسماعيل عليهما السلام في وادي مكة المُقْفِر الخالي من أسباب الحياة، وبعد أن حاجَجته زوجه قائلة: «أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء»؟ وعندما لم يُجبها قالت: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، فأجابت إجابة المرأة الواثقة بالله: إذًا لا يُضَيِّعَنا...
وبعد، فكم يا تُرى من سنين نحتاج حتى ننعم بمبادئ تلك الوثيقة التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبل عرفة منذ قرون؟ ومتى تفهم الشعوب وعلى رأسها النخب - ولا أقول الأنظمة - أنه لا أمل لها إلا بسياسات ومواثيق الإسلام من عهد آدم إلى إبراهيم حتى أيام آخر نبيّ من ذريته عليهم الصلاة والسلام أجمعين؟ ومتى تكف عن المراهنة على المؤسسات الدَّوْلية التي لا وظيفة لها سوى الاجتهاد في تحقيق مصالح الدول الكبرى؟
ولعل الإجابة الشافية التي تصفع كل الذين لم يبدِّلوا قناعاتهم بعد؛ هي تلك الثورات التي لم ينتظر صانعوها نظرة العطف ولا فُتات الإحسان من الخارج بل فهموا الدرس جيداً وراحوا ينتزعون حقوقهم ويدفعون الضريبة الغالية لكي تحيا الشعوب وتحيا الأجيال من بعدها حرة طليقة وقد كسرت قيود الخوف وحطّمت سلاسل الحرمانl
✽ جُمعت من عدة روايات للمحدِّثين البخاري، البيهقي، ابن إسحق، وغيرهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن