هل تحرم تلاوة القرآن على من يخطئ فيها؟
لقد سئلت كثيراً عن هذه المسألة منذ سنوات ووجدتها مسألة حسّاسة لأنه من جهة لا يجوز لمن لا يعرف القراءة أو يخطئ فيها أخطاء تحرِف القرآن أن يقرأ وحده القرآن، ولأنه من جهة ثانية يشقّ على أمثال هؤلاء وهم عوامّ أو من حاملي الشهادات العلمية العالية ولكن لم يتعلّموا تلاوة القرآن- للأسف الشديد-، وكثير منهم من المسنّين والمسنّات، يشق عليهم منعهم من تلاوة القرآن الكريم.ولذا اهتممت بتحرير هذه الفتوى وبيّنت فيها متى تحرم التلاوة بالنسبة لهؤلاء ومتى لا تحرم، ثم عرضتها على ثلاثة من كبار شيوخ القراءة والفقهاء في دمشق وهم: شيخ القراء محمد كريّم راجح والشيخ عبد الرزّاق الحلبي والشيخ محيي الدين الكردي، كما أرسلتها إلى دبيّ وعرضتها على شيخي الفقيه الحنفي وهبي سليمان غاوجي وهو تفضّل عليّ وأكرمني فعرضها على الدكتور عبد الله توفيق الصبّاغ والدكتور محمد بكّار زكريا من المتخصِصين في علوم القرآن، ولقيت استحساناً بفضل الله من الجميع ووافقوني من دون استثناء على مضمونها وكتب إليّ بخطّه فضيلة الشيخ محمد كريم راجح ما يلي: لا مانع من نشر هذه الكلمة وأرجو أن تأتي منها الفائدة المطلوبة.اهـ.وأرى من المفيد ذكر خلاصة الفتوى أولاً ثم التفصيل فيها لتحصل من التفصيل الفائدة لطلاب العلم ومن الخلاصة الفائدة لعموم الناس وقارئات وقرّاء المجلة غير المتخصّصين في العلم الشرعي.
أولاً: خلاصة الفتوى
مراعاة أحكام التجويد أمر مطلوب تارة على وجه الوجوب فيما الإخلال فيه يفسد المعنى أو يغيِر الإعراب، وتارة على وجه الاستحباب في غير ذلك، وذلك أن تالي القرآن الكريم إذا كان يعرف القراءة ولا يخلط بين الحروف ولا يغيِر الإعراب (فلا يقرأ الطالّين- مثلاً- بل الضالّين، ولا إيّاك بتخفيف الياء أو إياك بدل إيّاك، ولا اهدنا الصراطُ بدل الصراطَ، لأنه في هذه الحالات تحرم التلاوة وحده وعليه أن يتعلّمها على شيخ متقن يعلّمه ويصحِح له الخطأ): فإنه مرغوب له ومستحب شرعاً أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وأن يقبل عليه بالتدبّر ونية العمل، مع العزم على متابعة تعلُم أحكام التجويد لتحسن تلاوته باستمرار ولتقترب ما أمكنه من تلاوة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ومن ذا الذي يجرؤ على منع مثل هذا المسلم من تلاوة كتاب ربِه بحجة عدم إتيانه ببعض أحكام التجويد على الوجه الذي قرّره القرّاء وعلماء التجويد!
ثانياً: تفصيل الفتوى
1- للإمام ابن الجزري الأبيات التالية في وجوب تجويد القرآن:
إذ واجبٌ عليهم محتَم قبل الشروع أولاً أن يعلموا مخارج الحروف والصفات
لينطقوا بأفصح اللغات محرِري التجويد والمواقف وما الذي رسم في المصاحف
ثم قال:
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجوِد القرآن آثم
2- قال الإمام الفقيه الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي في شرحه لهذه الأبيات:(إذ واجب) صناعةً بمعنى ما لا بدّ منه مطلقاً وبمعنى ما يأثم بتركه إذا أوهم خلل المعنى أو اقتضى تغيير الإعراب.وعلم بذلك طلب التحرُز من اللحن وهو هنا الخطأ والميل عن الصواب وهو جليّ وخفيّ. فالجليّ خطأ يعرض للّفظ ويخلّ بالمعنى (1) والإعراب كرفع المجرور ونصبه (2). والخفيّ خطأ يعرض للّفظ ولا يخلّ بالمعنى ولا بالإعراب كترك الإخفاء والإقلاب والغنّة. قال المعلِق على الشرح (في النسخة المطبوعة بدمشق والمراجعة من قبل فضيلة شيخ وقارئ جامع زيد بن ثابت الشيخ محيي الدين الكردي حفظه الله): تقدَم أنه لا يأثم تاركه- أي تارك الإخفاء والإقلاب والغنّة- على اختيار المتأخّرين. انتهى تعليقه. والذي تقدَم هو نقله من كتاب "نهاية القول المفيد في علم التجويد" أن الواجب في علم التجويد ينقسم إلى شرعيّ وهو ما يحفظ الحروف من تغيير المبنى وإفساد المعنى فيأثم تاركه، وصناعيّ- أي بحسب ما اصطلح عليه علماء هذا الفنّ- كالإدغام والإخفاء والإقلاب والترقيق والتفخيم فلا يأثم تاركه على اختيار المتأخّرين.
3- وقال الإمام الفقيه ملاّ علي القاري الحنفيّ في شرحه للأبيات نفسها ما محصَله:هذا العلم لا خلاف في أنه فرض كفاية والعمل به فرض عين في الجملة وأما دقائق التجويد فإنما هو من مستحسناته، فالأظهر أنّ المراد هنا بالحتم الوجوب الاصطلاحيّ فإنّ اللّحن على نوعين: جليّ وخفيّ، فالجلي يعرض للّفظ ويخلّ بالمعنى والإعراب كرفع المجرور ونصبه ونحوهما سواء تغيّر المعنى به أم لا، والخفيّ خطأ يخلّ بالحرف كترك الإخفاء والقلب والإظهار والإدغام والغنّة وكترقيق المفخّم وعكسه ومدِ المقصور وقصر الممدود وأمثال ذلك.فمن لم يجوِد القرآن آثم بأن يقرأ قراءةً تخلّ بالمعنى والإعراب كما صرّح به الشيخ زكريا خلافاً لما أخذه بعض الشُرّاح- منهم ابن المصنِف (يقصد ابن الناظم ابن الجزري)- على وجه العموم الشامل للّحن الخفيّ، فإنه لا يصح كما لا يخفى.ثم ختم كلامه بخلاصة الموضوع فقال: فينبغي أن يراعى جميع قواعدهم وجوباً فيما يتغيّر به المبنى ويفسد المعنى. واستحباباً فيما يحسن به اللفظ ويستحسن به النطق حال الأداء. وإنما قلنا بالاستحباب في هذا النوع لأنّ اللحن الخفيّ الذي لا يعرفه إلا مهرة القرّاء... لا يتصوَر أن يكون فرض عينﹴ يترتب العقاب عليه لما فيه من حرج عظيم وقد قال تعالى ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾، و﴿لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها﴾. وهو الحقّ الذي يعضَ عليه بالنواجذ ولا يعدل عنه إلى غيره إلا المذامذ. انتهى.
4- وأخيراً: فقد قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء أثناء حديثه عن فرق المغترِين (3/374): وفرقة أخرى تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها فلا يزال أحدهم يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح مخارج الحروف في جميع صلاته لا يهمُه غيره ولا يتفكّر فيما سواه ذاهلاً عن معنى القرآن والاتِعاظ به وصرف الفهم إلى أسراره. وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلَف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام. ومثال هؤلاء مثال من حمِل رسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤدّيها على وجهها، فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنّق في مخارج الحروف ويكرِرها ويعيدها مرة بعد أخرى، وهو في ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بأن تقام عليه السياسة ويردَ إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل. انتهى.
هوامش
(1) مثال الخطأ الذي يعرض للّفظ ويخلّ بالمعنى: صراط الذين أنعمت عليهم. أو: أنّ الله بريء من المشركين ورسوله. أو: إنما يخشى الله من عباده العلماء.
(2) ومثال الخطأ الذي يعرض للفظ ويخلّ بالإعراب: الحمد لله، أو الحمد لله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة