الرجل حيي
أولادنا اليوم يستحون مما لا ينبغي الحياء منه! أقول له: "سلِّم على صديق والدك" فيستحي، "راجع البائع؛ لأن السلعة التي باعك إياها فاسدة" فيستحي، ثم نراه يتنكر لآداب الطعام ويتكلم وفمه مفتوح والأكل بادٍ منه، ويقول لوالديه: "أفٍّ"، ويرمي علب العصير والأوساخ على الأرض، ويغمز ويلمز ويمزح بفظاظة مع صديقه، ولا يرى في سلوكه هذا شيئًا يستحيا منه؟! وقد يدخِّن ويغش في الامتحان ويتفاخر بذلك!
وينبغي التمييز بين ما يُستحيا منه وبين ما لا يستحيا، والفيصل ما جاء في الإسلام، وكل ما نهينا عنه يُستحيا منه، وعلينا تجنُّبه، ومن العار التفاخر به
والحياء هو التصرف بتهذيب وأدب، وبما يتوافق مع العُرف والدِّين، والحياء - إذًا - ينبئ ويبشر بحياة الضمير، والحياء وازعٌ يعصم المرء عن الإسفاف، ومانع من ارتكاب القبائح أو الوقوع في الخطايا، ويردَع عن الأعمال المشينة المنافية للآداب، وعن الأخلاق الدنيئة، ومَن فقَدَ الحياء يفرِّط في كل شيء ولا يبالي، وإذا لم تستحِ فاصنع ما شئت؛ أي: من لم يكن له حياء، انهمك في كل فحش ومنكر.
وإليك أمثلة لما ينبغي الحياء منه:
♦ الفحش في القول، والسب والشتم: ((سباب المسلم فسوق))؛ متفق عليه، وروى الترمذي: ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء))، والشتم قد يريح الغاضب ويفرغ انفعاله، على أنه يسيء للقائل لا للمخاطَب! فهي لا تضرُّ المسبوب بشيء، بل قد يبدو للناظر "مظلومًا" إن سكت ولم يُجاوب، في حين تضر القائل؛ إذ يبدو للسامع قليل الأدب، نافد الصبر، غير محترم ألبتة.
♦ والغدر والخداع والخيانة والإخلاف بالوعد والموعد مما يُستحيا منه، وهي صفات المنافق.
♦ الغش؛ فلا ينساق مع زملائه في همسهم ونقلهم المعلومات أثناء الامتحانات، والغش يُنافي المسؤولية ويعطي النتائج الجيدة بلا بذل الجهد، ورغم انتشار الغش (من السهل تربية الأولاد على الاستقامة)، وهل تُصدِّقون أن ابني لم يدرس جيدًا فكتب جوابًا خاطئًا أثناء الامتحان، واطلع المعلم على ورقته وهو يدور بين الطلاب فهمَس له بالجواب الصحيح، واعتبر ابني هذا غشًّا ورفض تغيير جوابه الخاطئ تقربًا إلى الله، فعاقبه المعلم على استقامته!
كيف تزرعين الحياء؟
♦ حين يكون ابنك صغيرًا تكونين ملكة عليه، وبإمكانك تلقينه كل شيء؛ فحافظي على ضميره حيًّا، وكلما صنع شيئًا يخدش الحياء نبهيه على الفور؛ مثلاً: إذا تقدم عليك في الدخول اسحبيه برفق وادخلي قبله، وقولي بلا مبالاة (وكأنه أمر بديهي ومعروف): "الوالدان يتقدمان الأبناء"، وإذا قهقه بصوت عالٍ - في الطريق - قولي له: "تمالك نفسك واخفض صوتك"، وهكذا أعطيه ملاحظات سريعة وهادئة، وهذه الطريقة البسيطة تثمر كثيرًا مع الصغار، وسيُدهشك أنه سيتقبلها منك وسينفِّذها
♦ وفي بعض الأوقات أعطيه توجيهات واضحة، فإذا جلس يتشدَّق ويستخفُّ بالناس ويَسْخَر منهم، فلا تسمعي له وأظهري انزعاجًا، وإذا تجشأ بصوت مزعج أو تثاءبَ مُريه بدفعهما وبوضع يده على فمه، ولا تسمَحي له باستغلال الصداقات لتحصيل المنافع، وامنعيه من التبول في الأماكن العامة والمتنزهات أو أمام الناس، ونفِّريه من صحبة الأرذال وأتباع التحرُّر والموضات.
♦ وفي مرات أخرى أبدي استياءك من الذين يتصرَّفون بلا حياء؛ ليرى ابنك سوء سلوكهم وبشاعة مظهرهم، فإذا صادفتِ شابًّا يعاكس فتاة، أو صبية صغيرة تشرب الأركيلة، أظهري ازدراءك؛ لينمو ابنك على ميزان سليم يفرِّق بين الصح والخطأ.
♦ وبِّخيه على الأخطاء التي تستحق التوبيخ على الفور، وأقصد التي تضر خُلقه ودينه ضررًا مؤكدًا، وتغافلي أحيانًا عن الأخطاء الصغيرة ودعيه لضميره؛ وذلك ليميز بين الكبائر والصغائر.
♦ وليستحِ من التصريح بالفِسق والمعصية، أو بأقوال لا تكون إلا بين المرء ونفسه، فهذا الحياء سيكون الرادع الأكبر له لو سوَّلت له نفسه الوقوع في المعاصي، وإن لاحظتِ شيئًا على ابنك مثل: (فتح مواقع سيئة، محاولة للتدخين)، فإليك العلاج:
1 - تظاهري بعدم المعرفة ولا تتكلَّمي معه بالموضوع إطلاقًا (ولا سيما إذا اجتهد في إخفائه)؛ فإظهار عِلمك يزيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشَفة، ويتحول إلى الجهر بالمعصية؛ فيصعب العلاج
2 - عالجي الموضوع بطريق غير مباشر: حاولي أولاً تقوية القيم الدينية عنده بحكاية قصص الصحابة وتعزيزها بالأحاديث والآيات، وآثار التابعين، وقصص المتأخرين المحتوية على العِبر الجميلة (مثل كتاب: "الفرج بعد الشدة"
3 - وحاولي تقوية الوازع الأخلاقي لديه بالكلام عن الناس المحترمين، وكيف خولتهم مكانتهم ملكًا عظيمًا وجاهًا كبيرًا، والعائلات المحترمة تترفع عن كثير من الأمور، وتربأ بنفسها عن السلوك المشين؛ لتحافظ على هيبتها ومكانتها بين الناس.
4 - أبعديه عن مصدر السوء، فإن كان كمبيوترًا ضعيه في مكان بارز بحيث لا يستطيع الاختلاء وفتح المواقع، وإن كان التدخين فلا تسمحي له بالخروج من البيت وحيدًا ولا تُعطيه المال، وتذرَّعي بأي سبب لإبعاده عن مواطن الفساد ورفقاء الشر.
5- فإن علم بمعرفتك بأمره، عظِّمي ذنبه، ثم لوميهِ برفق، ولا تُكثري عليه اللوم؛ لئلا يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح، ويَسقط الكلام من قلبه فلا يعني له شيئًا.
6 - اشغليه بأي هواية.
فإن عاد، يُعاتَب بقسوة، ويقال له: إياك أن تعود لمثلها أبدًا، فإن عاد يعاقب عقابًا رادعًا (حسب عمره وشخصيته) مؤلمًا ومؤثِّرًا.
على أن الحياء لا يتناقض مع مجموعة من الصفات لمحببة، مثل:
الوعي: فينبغي أن يعرف ابنك السوء الموجود في الدنيا؛ ليتجنب الوقوع فيه، كلِّميه عن كل شيء قد يتعرَّض له ليحذر وينتبه، ولا بأس أن تخبريه (بطريقة ما وحسب عمره) عن خطف الصغار واللواط بهم؛ لكيلا يُكلِّم الغرباء ولا يماشيهم.
الثقة بالنفس: ولا أقصد أبدًا الكبر والغرور، وإنما عرفي ابنك وبصدق "قدر نفسه
قوة الشخصية: فيُبادر لكل خير، ويشترك في النشاطات العامة
والود لا ينافي الحياء، ومن الود الواجب:♦ إلقاء السلام - وبصوت مسموع - على مَن عرَف ومن لم يعرف.
♦ مصافحة الأقرباء والأقران، والسؤال عن أحوالهم باهتمام.
♦ مجالسة الكبار؛ للاستفادة من أحاديثهم، والتدرب على الحياة.
♦ ممارسة البيع والشراء، والتفاوض.
الحياء ليس جبنًا، ولا نقصد به السلبية وضعف الشخصية، والانزواء واحمرار الخدَّين، "الحياء" الذي أراده الرسول هو معرفة منازل الناس واحترامها، واجتناب الصفاقة والفحش والجهر بالمعصية، هو معرفة قدر النفس، واجتناب ما يخدش المروءة، هو الخلُق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، ويدخل فيه الآداب الإسلامية في المشي والجلوس وعدم الالتفات، فهو من خصال الإيمان، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، وفي الصحيحين: ((الحياء لا يأتي إلا بخير))، وفي رواية لمسلم: ((الحياء كله خير)).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة