كاتبة وفقيهة سورية مقيمة في الأحساء، دكتوراه في أصول الفقه، ومستشارة علاقات زوجية.
بين المحبة والنصرة
تقوم عقيدة المسلم في أول أركانها على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهي في شقها الأول: شهادة القيام بالقسط لله تبارك وتعالى، قال تعالى: (شهد اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18)، وفي شقها الثاني: هي شهادة الاصطفاء لمحمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) بمرتبتَي العبودية والرسالة، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164).
هذه المرتبة تقتضي محبته (صلى الله عليه وسلم) محبة صادقة، مما يورث حب الله للعبد، قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31).
وكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعِظَم خطرها، واستحقاقه لها (صلى الله عليه وسلم) ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (رواه مسلم). وفي الصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبيّ. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه». فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبيّ، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): «الآن يا عمر».
ومن بواعث محبة النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس وأعظم الناس في كل شيء، وقد شهد له بهذه الصفات القاصي والداني. ومن بواعث محبته كذلك: شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها، كما وصفه ربه تبارك وتعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: ١٢٨) ولذلك أرجأ (صلى الله عليه وسلم) دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة. ومن بواعث محبته(صلى الله عليه وسلم) بذل جهده الكبير في دعوة أمته وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: ٦).
هذه المحبة إذا عمرت القلب واصطبغ الوجدان بها ظهرت آثارها على الجوارح وجاء السلوك متلوناً بحسنها وانسجمت أقوال العبد وأفعاله معها. ومن ذلك:
1. تقديم النبي (صلى الله عليه وسلم) على كل أحد، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).
2. سلوك الأدب معه (صلى الله عليه وسلم) ، ويتحقق بالأمور التالية:
• الثناء عليه والصلاة والسلام عليه لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56).
• التأدب عند ذكره (صلى الله عليه وسلم) بأن لا يذكر اسمه مجرداً، بل مقروناً بالنبوة أو الرسالة، فقد قال تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63). قال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى: قولوا: «يا رسول الله» في رفق ولين، ولا تقولوا: «يا محمد» بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرّفوه ويفخموه.
• توقير حديثه (صلى الله عليه وسلم) وإجلاله والتأدب عند سماعه وعند دراسته كما كان يفعل سلف الأمة وعلماؤها، فهذا مالك إذا أراد أن يجلس للتحديث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيّب، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقّر به حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وكان سعيد بن المسيب وهو مريض يقول: (أقعدوني فإني أُعظم أن أحدّث حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا مضطجع).
3. اتّباعه (صلى الله عليه وسلم) وطاعته والاهتداء بهديه، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
4. الدفاع عنه (صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: ٨). والدفاع عن النبي (صلى الله عليه وسلم) يكون بنصرة دعوته ورسالته والدفاع عن سنته (صلى الله عليه وسلم)، ونشرها وتبليغها. والدفاع الأعظم هو تعظيمه (صلى الله عليه وسلم) في النفوس، وما كان لأحد من الناس أن يجترئ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لو أن المسلمين عظموه في نفوسهم وأهليهم وما ولوا.
إن التولّي عن نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) وعدم التمسك بمبادئ الدين الحق والتقاعس عن إقامة شرع الله كان السبب الأول لاجتراء رسَّام جاهل أو حاقد على نبي الرحمة ودين السلام والإسلام. ولن يكون الرد القوي على تلك الرسوم المسيئة بإقامة الحدّ في مرحلة ضعف الأمة وغياب السلطة ووسائل الإعلام الإسلامية القوية مع تفوُّل وسائل الإعلام المعادية التي تدأب في تشويه الإسلام، بل بمنهج الرسول الحكيم (صلى الله عليه وسلم) الذي رأى أصحابه يلفُّهم الحزن لما سمعوا المشركين يستهزئون بنبيهم ويقولون عنه: (مذمَّم) في مثل المرحلة التي نحن فيها، فتبسَّم (صلى الله عليه وسلم) ضاحكاً لهم، قائلاً: (أنا محمد) (رواه البخاري). والحمد لله رب العالمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة