التعنيف في السجون اللبنانية... واقع منسي
وراء أسوار السجون اللبنانية، حيث "إعادة التأهيل والإصلاح المفترض"؛ تُرتكب جرائم بنوع أكبر وظلم أعتى بحقّ النزلاء المقيمين فيها... فالتعذيب والتعنيف والإيذاء والتحقير والإهانة والإذلال والخوف مفردات يُعايشها السجناء يومياً داخل أسوار هذه السجون.. هناك "أحد الدروس التي يتعلّمها المسجون هو أن الأمور هي على حالها وستبقى كذلك"، بحسب العبارة التي افتتح بها الأكاديمي والصحافي عمر نشّابة كتابه الذي حمل عنوان: "سجن رومية إِنْ حَكَى" الذي يبحث فيه عن معنى الإصلاح وإعادة التأهيل في أَرْوِقة سجنٍ يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة.
وحول موضوع التعنيف في السجون اللبنانية من الناحية القانونية والحقوقية والاجتماعية والإنسانية.. أجرت المجلة حوارات عدة مع:
• رئيس جمعية "لايف" لحقوق الإنسان المحامي نبيل الحلبي.
• المتخصِّصة الاجتماعية مايا يموت.
• ممثلة أهالي السجناء الإسلاميين الأخت أم مصعب.
فإلى التحقيق:
من الناحية القانونية والحقوقية
يقول نبيل الحلبي: "وضع السجون في لبنان سيء جداً، وهو دون الحدود الدنيا لأي سجن في العالم، وهذا الواقع معلوم لدى جميع الحكومات اللبنانية المتعاقبة؛ التي لم تقم بأية خطوات لتغيير هذا الواقع إلى الأفضل..
• وحول الشروط الواجب توفرها في السجون حتى تكون مراكز حقيقية للتأهيل والإصلاح يجيب الأستاذ نبيل الحلبي: "من الناحية القانونية والحقوقية يُعتبر السجن مكاناً لتمضية العقوبة المحكوم بها بالقانون، لكنّ الدول التي تحترم حقوق الإنسان تطورت في مجال السياسة العقابية؛ بحيث اعتبرت أنَّ سَجنَ المحكوم وحجزَ حريته هو استثناء، فمن الممكن إيجاد حلولٍ أفضل للمجتمع، فمع تحييد المحكوم الخطِر عن المجتمع قد تلجأ إدارة السجن إلى توظيف المحكوم في بعض الأعمال التي يُحسن عملها؛ بحيث يستطيع أن يجني المال له ولأسرته.. وهناك بعض المحكومين ممن تسمح لهم إدارة السجن بالتواصل العائلي يومياً، والعودة في الليل إلى السجن حتى انقضاء فترة العقوبة. هذه الفلسفة العقابية تهدف إلى عدم إلحاق الأذى النفسي بالسجين الذي يجب أن يعود يوماً إلى حياته الطبيعية، كما أنها لا تريد إلحاق الأذى والضرر النفسي والمادي بالأشخاص الذين لا ذنب لهم كعائلة السجين من زوجة وأطفال، الذين يجب أن يبقوا على تواصل مع مُعِيلهم.
طبعاً في لبنان نرى أن السجن هو المكان الذي تتم فيه صناعة الناقمين على الدولة والمجتمع، والعقوبة التي تستهدف السجين تمتدّ لتشمل أسرته التي تفقد من يُعيلها، فتنقطع الزوجة عن زوجها،
وينقطع الأطفال عن والدهم، والحالة تتخذ صورة أفظع عندما نتحدث عن عائلة فقيرة. فنكون أمام عملية تفكيك وتدمير للعائلة ووحدتها وأمن المجتمع بأسره في ظِلِّ انعدام أيَّة متابعة من وزارة الشؤون الاجتماعية لعائلات السجناء.
• أما عن أسباب ظاهرة التمرّد والعصيان التي نشهدها في السجون اللبنانية يقول الأستاذ نبيل الحلبي: "ما يشكل الكارثة الإضافية في لبنان هو أن السجن في لبنان لا يقتصر على حبس المحكومين؛ بل يمتد ليشمل الموقوفين قيد المحاكمة. ففي معظم هذه الدول تكون هذه الفترة قصيرة قبل النطق بالحكم؛ إلا أنه في لبنان يمتدّ أمدُ المحاكمة لسنوات، لا سيما للموقوفين الملتزمين دينياً من أهل السنّة، وذلك لضمان إيجاد حالة من الغضب، واستدراج ردَّات فعل منهم ومن عائلاتهم تجاه الدولة والمجتمع، ليتم تصويرها فيما بعد أنها حالة إرهاب يجب استئصالها من المجتمع. وهذا ما يدفع السجناء في كل فترة إلى انتفاضة وعصيان وإضراب عن الطعام حتى يتذكّر الرأي العام أوضاعهم المنسية.
• ماذا عن التعذيب والإيذاء في السجون اللبنانية؟ يقول الأستاذ نبيل: "إنّ أعمال التعذيب تعتبر جريمة وليست سلوكاً سيئاً أياً كان من يقترف هذه الجريمة. في السجون وأماكن الاحتجاز الأمنية والعسكرية في لبنان يتم ممارسة التعذيب بشكل منهجي أثناء فترة التحقيق الأولي الذي تجريه الأجهزة الأمنية.
كل من يمارس جرائم التعذيب بمختلف صورها وألوانها ودرجات شدّتها هو مَن يتحمّل هذه المسؤولية سواء أكان موظفاً حكومياً أو فرداً عادياً. والمسؤولية هنا مسؤولية جنائية تقتضي الملاحقة القضائية، وهي ليست مخالفة إدارية تقتضي تدبيراً مسلكياً.
• بالنسبة لدور المؤسسات الحقوقية والجمعيات الأهلية لمواجهة ما يجري في السجون اللبنانية من تعنيف وتعذيب وإيذاء يرى الأستاذ نبيل الحلبي أن: "على المؤسسات الحقوقية رصد جرائم التعذيب وسائر الانتهاكات، والعمل على توثيقها، ومطالبة السلطات الرسمية بإجراء تحقيقات فيها، ومحاسبة المسؤولين عنها. كما يجب على السلطات الرسمية في لبنان تمكين المؤسسات الحقوقية من دخول السجون في أي وقت وبدون أي عائق؛ تنفيذاً لتوصيات اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب. كذلك تمتلك المؤسسات الحقوقية خيارات تقديم الشكاوى وإرسال التقارير إلى لجان خاصة في الأمم المتحدة، وجهات دولية ضاغطة".
اجتماعياً
• حول واقع السجون وأوضاع السجناء في لبنان تقول الأستاذة مايا يموت: "يمكن القول أنها تفتقر لأمور عديدة لا سيما من الناحية الإنسانية؛ بحيث يتم وضع أكثر من سجين في بضعة أمتار مربعة، وهذا طبعاً يؤدي إلى أمراض ناجمة عن نقص في النظافة وغيرها، هذا من ناحية الشكل أما من ناحية المضمون؛ فأكبر مشكلة تُواجه السجون هي مسألة البطء في البتِّ بالمحاكمات وتأخيرها؛ لا سيما للموقوفين بتهم الانتماء لجماعات مسلحة، ما يخلق شعوراً بالمظلومية لدى هؤلاء السجناء.
إن السجين الذي يدخل إلى السجن في لبنان لا يخضع لعملية إصلاح اجتماعي ونفسي كما يجب وبحسب المعايير التي توضع دولياً في هذا المجال، وبالتالي لا تحقق المطلوب منها في التأهيل والإصلاح؛ بل أحياناً تزيد المجرم إجراماً.
• أما عن أهم الآثار أو الانعكاسات الاجتماعية التي قد يتعرّض لها السجين بالدرجة الأولى نتيجة هذا الأمر ثم أهلُه؛ تعلّق الأستاذة مايا قائلة: يتأثر أهل السجين اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً. فأحياناً يكون السجين هو الوالد أو المعيل الأساسي للعائلة، ومع توقيفه تصبح بلا مُعِيل.
اجتماعياً تتأثّر العائلة بالنظرة إلى ابنها على أساس أنه مجرم قبل إثبات التهمة عليه. وبمجرد دخول المرء إلى السجن يَحكمُ عليه المجتمع.
نفسياً يكون العبء كبيراً على العائلة والسجين بسبب نظرة المجتمع إليهم، والشعور بالخجل والعار، ما يؤدي إلى الاكتئاب وأمراض نفسية أخرى. هذه الأمور كلها تدفع إلى انهيار الروابط العائلية.
• وحول الكيفية التي يتخطى بها السجين ما يتعرّض له من تعنيف وإيذاء وإهانة لكرامته وكذلك أهله.. تضيف الأستاذة مايا: "معظم السجناء لا يتخطون مسألة التعرض للضرب والتعنيف. كل ذلك يترك أثراً نفسياً كبيراً عليهم.. ومنهم مَن يحمل معه هذا الحقد إلى خارج السجن للانتقام من المجتمع.. منهم مَن يلجأ إلى أهل الدين للعلاج أو المعالجين النفسيين، ومنهم من يميل إلى الانزواء على نفسه والاكتئاب، وأحياناً يصل الموضوع إلى الانتحار. المهم هنا أن تتم متابعة هؤلاء السجناء نفسياً خارج وداخل السجن؛ منعاً مِن تفاقم الحالة النفسية لديهم.
• من يتحمّل مسؤولية ما يجري في السجون اللبنانية؟ وما هو دور وزارة الشؤون الاجتماعية من هذا كلّه؟ وما هو المأمول منها؟
أجابت الأستاذة مايا: "الدولة اللبنانية مُمثّلةً بوزارة الداخلية تتحمل المسؤولية، وبرأيي يجب أن تكون المسؤولية بيد وزارة العدل، وليس الداخلية. كما يجب أن يتم العمل على الضباط الأمنيين وتدريبهم على العمل الاجتماعي؛ من أجل تعلّم كيفية التواصل مع السجناء.
الدور المتوقع من وزارة الشؤون هو تأسيس نقابة للأخصائيين في العمل الاجتماعي تكون ملزمة، ولا ينحصر دورها بالأحداث، بل دورها أكبر من هذا بكثير. ومطلوب أيضاً تفعيل عمل المساعدين الاجتماعيين؛ بهدف متابعة أكبر عدد من المساجين في لبنان منعاً لتفاقم الأمور والوصول إلى الأسوأ.
إنسانياً
• في ختام التحقيق كان لنا حوار مع ممثلة أهالي السجناء الإسلاميين الأخت أم مصعب حيث قالت:
الظلم الذي يتعرّض له أبناؤنا الموقوفون الإسلاميون من تعذيب وتنكيل وإهانة، هذا غير الزنازين الباردة التي يُودعون فيها والظهور المسلوخة والجوع والعطش الذي يعانونه في السجون.. مع الإشارة إلى أنّ أغلب المسجونين لم يهددوا السلم الأهلي، بينما غيرهُم يسرح ويمرح ويفسد ويخرب في الأرض... من أجل هذا كلّه نزلنا إلى الشارع حيث قمنا باعتصامات.. فمعظم قصص الأهالي مع أبنائهم الموقوفين متشابهةً إلى حد التطابق.. بالنسبة للطعام؛ فلا يُسمح أن يَدخل شيء من خارج السجن، ويُلزمون الأهالي بشراء السلع من داخل السجن وبأثمان باهظة..
• أما فيما يتعلّق بالشقّ القضائي؛ فقد أفاد الموقوفون بأنهم تعرّضوا في مراكز التحقيق الأولي لشتى أنواع التعذيب لسحب الاعترافات منهم وتلفيق التهم لهم، وبعد صدور القرار الاتهامي يتم تحديد موعد الجلسة الأولى بعد ثمانية أشهر أو سنة على الأقل، ويتمّ تأجيل الجلسات مرات عدّة.. وحين تنتهي المحاكمة يكون الموقوف قد أمضى مدّة توقيفه أكثر من المدة التي يُحكم فيها؛ والتي قد تصل إلى ثلاث
سنوات وما فوق، وإذا قدّم إخلاء سبيل في مدة توقيفه يُرفض الطلب مرات كثيرة، وإذا قُبل يغرِّمونه بغرامات مالية مرتفعة..
• ماذا عن معاناة الأهالي؟
معاناتهم أكبر من معاناة أولادهم في السجن؛ حيث أنَّ الأم أو الزوجة أو الأخت ترى بأمّ عينها التعذيب الذي يُمارس ضد الموقوفين.. وترى آثار الجوع والضرب ظاهراً عليهم، ناهيك عن المعاملة التي يعاملونها لأهالي الموقوفين الإسلاميين على نقاط التفتيش في سجن رومية؛ حيث لا يسمحون لهم بإدخال المستلزمات الضرورية لأولادهم.. أما بالنسبه للمواجهة (مقابلة أبنائهم) فحدِّث ولا حرج؛ فمدة المواجهة ١٥ دقيقة، يجلس الأهالي حوالي الأربع ساعات أمام أبواب السجن تحت الشمس الحارقة في الصيف والبرد القارس في الشتاء ليُسمح بدخولهم بعد ذلك لمدة ربع ساعة، فيسود شعور جماعي بينهم بأنّ العقاب واقع عليهم، ويدفعون الثمن هم وأولادهم..
• من يتحمل المسؤلية؟ تقول أم مصعب:
أولاً: الحكومة اللبنانية.
ثانياً: السياسيون من الطائفة السنيّة.
ثالثاً: والأهم المشايخ والعلماء؛ لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم من عامة المسلمين بحديث الرسول (ص): "فُكُّوا العاني"، ويرون بأعينهم أعراض المسلمين في الشارع وهي تتعرَّض للإيذاء والإهانة.
• وحول تحرّك الأهالي تضيف الأخت أم مصعب:
لقد تحركنا على الأرض، وقصدنا العديد من المسؤولين وبعض المشايخ والعلماء، وكنا نخرج بوعود فقط، وإلى الآن لم نأخذ منهم إلا الوعود، ولم يتحسّن وضع أبنائنا في السجون ولا بالقضاء لا بل بات الظلم أكثر، لذا بعض الأهالي يئسوا من تحركاتهم في الشارع؛ خصوصاً لأن تحركنا لم يكن بالمستوى المطلوب، لأن بعض الأهالي يخافون على أبنائهم الآخرين من أن يعاقبوا بالسجن.
مطالب
أما مطالبنا فتتمثّل:
• بإلغاء قانون الإرهاب الذي يتوسّع بالشبهات، وإعادة الصلاحيات للمحاكم العادية.
• تسريع المحاكمات، والبتُّ بملفات المحكومين من ذوي السلوك الحسن الذين ظُلموا في الحقبة السابقة.
• تحسين المعاملة مع الأهالي بالنسبة لموضوع الزيارات.. وتحسين أوضاع الموقوفين داخل السجون، وأن يُرفع الظلم عن هذه الطائفة المضطهدة، وكفّ أيدي الجلادين عنهم.
وأودّ أن أوجه رسالة إلى علماء المسلمين، وأقول لهم: خيرة أبنائنا وشبابنا من أهل السنة تُلفَّق لهم التهم، ويُلقَى بهم في السجون المنفردة، ويُعذّبون بأشنع الأساليب، ويبقون عشرات السنين دون محاكمات..
• فأين دوركم يا سادة في فكاك أبنائنا؟
• أين دوركم يا علماؤنا في فكاك الأسرى الدعاة الذين يتم اعتقالهم وتوقيفهم؟ أين صوتكم؟
• أين معذرتكم أمام الله؟ أفتعجزون عن بيان واحد ولو للمناشدة لإطلاق سراحهم وتوقيف المداهمات الظالمة بحق أبنائنا؟
علماؤنا الكرام هذه دعوتي لكم على اختلاف أجناسكم ولغاتكم.. قوموا بأمر الله يا خيرة أهل الأرض.. قوموا بأمر الله يا حملة الشريعة.. كفوا عن أبنائكم الظلم.. جاء دوركم لتوحدوا الأمة في المواقف.. وتنصروا المظلوم.. وأسأل الله أن يوفقكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يبارك في مساعيكم ويصلح بكم دينه ويرفع بكم ملته وشريعته.. والحمد الله رب العالمين ممثلة أهالي السجناء الإسلاميين الأخت أم مصعب"..
مما لا شك فيه كما تبين من خلال سطور هذا التحقيق، أن السجون اللبنانية بأوضاعها الحالية بحاجة لإعادة نظر شاملة وجذرية، نظراً لحالة التردّي التي تعانيها على مختلف الأصعدة. فهل من يسأل؟ وهل من مجيب؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة