جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثالث

لقد قام الإسلام على العلم واليقين العلمي، وإن كان روح منهجه مُستَمَدًّا من وحي السماء وفيه الكثير من الغيبيات، ويكفي أنّ أول كلمة في كتاب الله كانت (اقرأ) ليُستَدَلَّ بها على طرق الوصول إلى كلّ ما هو مأمول من غايات القبول بتحقّق وتيقُّن بعيدًا عن كلّ وَهْم وعن كلّ خرافة ينسجها الخيال وينقلها للواقع على أنها حق وهي محض افتراء وأساطير لا تجد لها لا في العلم الموثوق ولا في الشرع الحق قبول.
وإن لكلّ دين من يخرج من عباءته ويحاول إفساده بسوء النقل أو بالجهل، وهو ما يصل بصاحبه إلى أن يصير أمّا زنديقًا مارقًا يضاد الدين ويناقضه، وإمّا أن يأتي لإفساد الدين من داخله بالكثير من المخالفات والتي تصل إلى حد اعتبارها من الخرافات التي أدخلها الكثير من المنتسبين للإسلام قديمًا وحديثًا ليست أقل ضررًا على الدين وأهله من أعداء الإسلام الحقيقيين وما أكثرهم. وهذه الخرافات أراد أصحابها أن يلبسوها إمّا ثوب العلم وإمّا ثوب الدين وإمّا الثوبين معًا، فلم يفلحوا في هذا ولا في ذاك ولا في ذلك. ويمكن لنا أن نحصر حديثنا في ذلك في صنفين من الناس جمعهما الإمام علي كرّم الله وجهه في حديثه المشهور: 'قصم ظهري رجلان عالم متهتّك وجاهل متنسّك'، وما بين هذين الرجلين خرج منهما أقوام وأقوام، وكان لهما أبواق وأعلام. ويمكن لنا أن نقيّد مقالنا هنا بأدعياء العلم الذين يجمعون بين صنفين من الناس أحدهما بلغ به التعصّب المذهبي والتعلّق بشخص خليفته وإمامه حدًّا يفوق الوصف والتصوّر ليصير أغرب من الخيال ويضرب المنهج العلمي في صميمه فضلًا عن تعارضه مع المنهج الشرعي السليم للدين الحنيف. وصنف آخر يسلك مسلك التصوُّف والزهد ضمن طريقة من طرق من يقلِّده، وهذا الصنف من الناس ضرب النصوص الشرعية ببعضها واستخرج لنفسه منهجًا ادّعى أنه منهج ومسلك النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأدخل إلى طرق عبادته الكثير من التضليل والأباطيل.
ونبدأ بالصنف الأول وهو الذي اتجه نحو التطرّف المذهبي في كلّ المناحي بعيدًا عن الاعتدال ولم يسلك مسلكًا علميًا متجرِّدًا فيما يقدِّمه من أفكار مقابلة لمذهب أهل السُّنَّة والجماعة عمومًا. بل أنه أنكر عليهم الكثير من الأمور المتفق عليها والمشهود لها في الكتاب والسُّنَّة من ترجيح واعتماد ما اختاره الصحابة بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام من تولّيه خليفة رسول الله عليه الصلاه والسلام وهو أبو بكر رضي الله عنه وهو الذي كان على مستوى المسؤولية وإن كان لا يتمنّاها 'وُلِّيْتُ عليكم ولستُ بخيركم'. وقاتل المرتدّين وجهّز جيش العسرة فضلًا عن صحبته ومصاهرته لرسول الله بأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وكلّ ذلك يرفضه القوم في أصوله وفروعه ويضعونه في مقام اغتصاب الخلافة وسلبها من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان الأمر كما يدَّعون فلِمَ سكت عن حقه؟ فإن قالوا حقْنًا للدماء وحفظًا للأمّة من الضياع فهم أولى بالسكوت من صاحب الحق نفسه.
وما قلناه هو عيِّنة ممّا ينبغي عدم السكوت عليه ممّا يطعن في التاريخ الإسلامي في معظمه واتهام جلّ الخلفاء والأمراء والعلماء بالخيانة لأهل البيت وكَيْل الشتائم واللعن والسبّ والقدح بهم وتجيير الأحاديث والروايات المدسوسة والمكذوبة والتي أقل ما يقال فيها أنها كذب على الله ورسوله لِجعْلِها في صالح خليفة واحد من خلفاء المسلمين وهو سيدنا عليّ كرّم الله وجهه والذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه: 'يا عليّ يهلك فيك اثنان محبّ غالٍ ومبغض قال' وقد اختار القوم أن يكونوا من الصنف الأول الذي بلغ بهم الغُلُو حدًّا أنهم لا يذكرون صاحب الرسالة والنبوَّة بقدر ما يذكرون ابن عمه، وتجد عندهم من الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا أيّ سند من علم مصطلح الحديث والتي بلغت حدّ التقديس والتأليه له إلى درجة أنّ الشمس قد منعها الله يومًا من الغروب كرامةً لعليّ فضلًا عن تقديمه على الملائكة هو وأهل بيته، ونسْب الأحاديث التي لا يصدِّقها عقل، ولا نقل لهم فقط لأجل إقناع الناس بأنهم الأولى بالاتباع.
وأمّا جواب العلم والدين عن هؤلاء القوم فيمكن لنا أن نجمله بسندين اثنين، السند الأول فهو مستمد من قول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وهو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويفيد العموم في معناه وهو يعني فيما يعنيه عدم اتباع الهوى على حساب العلم وعدم تقديم الأشخاص مهما بلغ علمهم وقدرهم إن كانوا مخالفين للحق على قاعدة 'يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال'. وأذكر مثالًا واحدًا مرّ علَيّ ويمكن البناء عليه في كلّ ما نقول، فقد قرأت لأحد أعلام هذا المذهب أنه من الأولى تغيير اسم سورة البقرة لأنه لا يليق بمحتواه وأنه وجد الأولى أن تُسمّى بسورة آدم لأنها أوّل قصّة في السورة تحدّثت عنه. فمَن يجرؤ على مثل هذا التغيير والتعديل في ما هو موقوف من الأسماء بوحي السماء لسور القرآن الكريم وترتيبها في المصحف يمكن له أن يتمادى إلى أكثر من ذلك فيضيف ما يحب ويحذف ما يكره ممّا يوافق ما يناسب هواه وكل ذلك بستار من الموضوعية المزيّفة والمصداقية العلمية المفقودة.
ولو أتينا إلى الصنف الثاني والمسمّى بأدعياء الصوفية فإنّ الأمر هنا واسع ومتشعِّب، ولكن يمكن حصره في أمرين اثنين نجد لهما أجوبة في العلم والدين معًا. الأمر الأول: إنّ من يريد أن يشرب الماء الصافي العذب الزلال - إن كان ذو عقل وبصيرة - فإنه أوّل ما يتّجه إلى منبع هذا الماء وليس إلى رافد أو ساقية منه. فالإسلام هو بحدّ ذاته منبع الزهد والتبتّل والتقرّب إلى الله بكل ما تدعوا إليه فرق الصوفية في الوجه الأبيض منها ولكن الوجه الآخر لها مختلف تمامًا، ذلك أنّ القوم قد خلطوا فيما يدعون من أنهم قومٌ خُلَّص بين الزهد المطلوب وبين هذه الرهبانية المستمدة من المذاهب المستوردة من بلاد الهند والتي تجمع في أكثر ما فيها من مثل مذهب هراديشت وغيره من التقمُّص والتناسخ وتعذيب الجسد والصوم الطويل. وقد حاول أعلام الصوفية أن يستنسخوا ذلك المثال في عبادتهم وأضافوا إلى ذلك ما أملى لهم الشيطان به من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ممّا لا يقبله عقل ولا يصدِّقه نقل. وتمادى القوم في غلوِّهم حدًّا أن قدَّموا الأولياء على الأنبياء، وجاء من يقول منهم: 'نحن خضْنا بحارًا وقف الأنبياء على شاطئه'. ويقصدون به موسى عليه السلام عندما لم يستطع السير بقومه من بني إسرائيل هربًا من فرعون وجنوده إلّا بعد أن ضرب البحر بعصاه. وهو يعني أنهم خاضوا البحر بلا هذه العصا. وقِسْ على ذلك الكثير والكثير ممّا يعرضونه في كتبهم ممّا يُسمّى كرامات الأولياء والتي لا يمكن إنكارها بالكُلِّية لأنّ لها وجهًا من الصدق والقبول ممّا في الكتاب والسُّنَّة لِمَن أعطاهم الله من كرامات كمثل مريم ابنة عمران في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا ذَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران]. وخبر آصف بن ارخيا عند نبي الله سليمان الذي عنده اسم الله الأعظم وفي رواية أنه هو من أحضر عرش بلقيس في قوله ممّا أخبر الله عنه {قَالَ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[النمل]. وأيضًا ما اشتهر ممّا قاله سيدنا عمر رضي الله عنه وهو يخطب بالمسلمين فقال: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! ممّا كشف الله له من حال المسلمين في المعركة. وهكذا نجد أنّ للكرامات مكانها ومكانتها ولكن من دون خلط ولا لغط ومن دون تزييف ولا تحريف.
وهذا ما قدّمناه من جواب العلم والدين فيما عرضناه في ثلاثة أجزاء هو غيض من فيض من أمور يصعب حصرها في كتابتنا المتواضعة ولكن لعلها تكون قبسًا أضاء بعض الطريق في دياجير الظلام. والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مؤشرات تَعافي الاقتصادَيْن السّوري واللبناني
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السادس
وجوه النفاق.. في الدين والحياة
تأثير التنمُّر على نفسيّة الطفل
أشرَق الأمل... وعاد الحقُّ إلى أهله