التعليم الشرعي و صناعة التهميش
كتب بواسطة بقلم: الدكتور عبد الكريم بكار
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1106 مشاهدة
لا يستغني أهل أيّ ملة أو ديانة عن رجال يتفرّغون لتعليمها وخدمتها، وذلك لأن عدم وجود مَن يعد نشر تعاليم الدين وتوعية أهله به مهمة خاصة به، سيعني وجود الكثير من الأمور التي لا تجد من يهتم بها.
و على مدار التاريخ الإسلامي كانت هناك رعاية للعلوم الشرعية وحملتها مِن لَدُن الحكومات، وكانت تلك الرعاية ـ مع استثناءات قليلة ـ محدودة، والسبب مفهوم. فالعلم الشرعي والاحتساب والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ تؤسس لأصحابها سلطة روحية وأخلاقية، تنازع في أحيان كثيرة السلطة الزمنية وتنافسها على قيادة الجماهير، وكانت الأمة تُقدِّم لطلاب العلم والدعاة الدعم المساند عن طريق الصدقات والأوقاف المختلفة، لكن الشعور بعدم كفاية ما يُقدَّم كان شيئاً مستمراً، وهذا غير مستغرب.
ومهما يكن الأمر فإن العواصم الإسلامية كانت تعجّ في معظم العصور بعشرات ـ أحياناً مئات ـ المدارس والمعاهد والكليات الشرعية، ويذكر المؤرخون (على سبيل المثال) أنه كان في دمشق أيام نور الدين زنكي ما يزيد على ثلاثمائة وسبعين مدرسة، تُقدِّم العلوم الشرعية لمن يرغب من الطلاب.
حين كنتُ في العاشرة من عمري التحقت بواحد من تلك المعاهد، وبعد دراسة استمرت خمس سنوات التحقت بمعهد آخر، ودرَسْتُ فيه خمس سنوات أخرى قبل أن أنتقل إلى الجامعة، وأنا أشعر بالامتنان لما أفدته من أساتذتي وشيوخي، وأدعو لهم في ظهر الغيب، ومن هنا فإني حين أتحدث عن التعليم الشرعي، فإني أتحدث حديث العارف المعايش الخبير.
وهذه بعض الملاحظات حول التعليم الشرعي الأهلي:
ـ لم يتوفر في يوم من الأيام من الوظائف في الإمامة والخطابة والقضاء والإفتاء والتدريس... ما يوازي الأعداد الكبيرة من طلاب العلم الشرعي، وهذا يجعل الحاجة والعوز من الأمور المألوفة جداً في حياتهم، كما أن عدم تنظيم الموارد المالية للوظائف المتوفرة على نحو جيد جعل بعض طلاب العلم يحصلون على مرتباتهم بطرق لا تنسجم في كل الأحيان مع حفظ الكرامة والمروءة، وهذا يؤثّر تأثيراً كبيراً في الوضع الاجتماعي لطلاب العلم، ويقلل من أهميتهم ودورهم في القيادة الروحية والاجتماعية للجماهير المسلمة، وهذا واضح وملموس.
ـ لو عدنا مئتي سنة إلى الوراء لوجدنا أن طلاب العلم الشرعي بمختلف تخصصاتهم ووظائفهم هم العمود الفقري لمثقفي الأمة، وهذا يعني أن المنافسة لهم من ذوي التخصصات الأخرى كانت ضعيفة للغاية، فقد كانوا يَصُولون ويَجُولون في الساحة الثقافية، ويشكِّلونها وفق رؤاهم وطُروحاتهم، ولهذا ميزة التفرد بقيادة الركب الثقافي، وله سلبية ليست صغيرة، وهي الشعور بالرخاء والاطمئنان إلى الإنجاز، وفقد الحافز على التطوير والارتقاء، أي الافتقار إلى المحرض على التفوق على الذات.
أضف إلى هذا أن ارتباط كسب الرزق بما لدى المرء من معرفة وعلم لم يكن قوياً بما يكفي، ولهذا فمن المألوف جداً أن يكون الرجل عالماً محققاً في علم من العلوم، ومع ذلك يكون مصدر رزقه هو التجارة أو العمل في مهنة من المهن، ولهذا فإنك تجد بين العلماء من لقبه البزّاز والخرّاز والحدّاد والنّجار والصبّاغ والنحّاس. . . ولم تحظ تلك الوضعية ـ بدراسات عميقة ـ تكشف عن إيجابياتها وسلبياتها على نحو جيد.
ـ نشهد اليوم تغيّراً واضحاً في الأمرين اللذين أشرت إليهما آنفاً؛ فطلاب العلم الشرعي لا يشكّلون اليوم غالبية طلاب العلم، ولا يقودون المسيرة الثقافية، وإن كان لهم جهد وموقع لا يُستهان به، وفي إمكان المرء أن يلاحظ أن معظم النابهين الذين يحصلون على درجات مرتفعة في الثانوية العامة لا يدخلون كليات الشريعة وأصول الدين، وإنما يدخلون كليات الطب والهندسة والمعلوماتية والإدارة.
كما أن أبناء معظم الأسر الثرية وكثيراً من أبناء المدن لا يتوجهون إلى دراسة العلوم الشرعية في المرحلة المتوسطة والثانوية ـ لهذا بالطبع استثناءات قليلة ـ وإنما يتوجهون إلى التعليم العام. وصار ارتباط الوظيفة والمكانة الاجتماعية وحجم الدخل السنوي بنوعية التخصص الذي يدرسه الإنسان قوياً وظاهراً، وكثيراً ما تكون العلوم الشرعية في مرتبة متدنية في هذا الشأن!
هذا كله يعني أن على المدارس والكليات الشرعية أن تفتح عيونها بقوة على التحديات التي تولّدها الحالة الراهنة، وأن تعمل جاهدة على تطوير ذاتها وتغيير الكثير مما تعوّدته في العهود الماضية، وإلاّ وجدت نفسها تعيش على هامش الحياة، وتخرِّج مجموعات كبيرة من المهمَّشين،
ولعل من المناسب هنا أن أحدد بدقة المقصود من التعليم الشرعي الذي أزعم أنه يقوم بتهميش معظم الدارسين له ، وذلك حتى لا تتسع علينا رقعة الظاهرة التي نسلط الضوء عليها .
إن التعليم الشرعي الذي أعنيه في هذه المقالات هو التعليم الذي تقدمه المدارس الأهلية (غير الحكومية) في مرحلة ما قبل الجامعة، ولا يعني هذا بالطبع أن التعليم الشرعي الذي تقدمه الحكومات تعليم جيد، كما لا يعني أن التعليم الجامعي مُعافى مِن العِلل.
أود أن أشير في البداية إلى أن من غير المستحسن أن يكون في البلد الواحد نُظُم تعليمية مختلفة، بعضها إسلامي صميم، يُقدِّم العلوم الشرعية والعربية على نحو شبه مطلق، وبعضها يقدم العلوم الكونية والإنسانية بمسحة شبه علمانية، إن وضعية كهذه تؤسس لتمزق ثقافي خطير، وتجعل التواصل والتفاهم وتوحيد الرؤى المشتركة بين الشرائح المثقفة والمتعلمة ضعيفاً وهشاً. المطلوب في الأساس تعليم واحد تسري فيه روح الإسلام، ومقاصد التشريع، ويشتمل على قدر جيد من المعارف والعلوم الشرعية التي لا يستغني عنها أي مسلم مهما كان تخصصه، لكن هذا ليس موجوداً في الحقيقة إلا في بلاد محدودة جداً ، وهذا هو الذي يدفع بعض أهل الغيرة وذوي الاختصاص والاهتمام إلى تشييد مدارس شرعية خارج نظام التعليم العام الذي تقدمه الحكومات، لكن ما نقوله دائماً هو أن نُبل المقصد وكرم الغاية لا يعفي أحداً من المُساءلة، ولا يغنيه عن المراجعة، فالأخطاء التي يقع فيها البشر مع حسن نواياهم أكثر بكثير من الأخطاء التي يقعون فيها عن سابق عمد وإصرار.
السؤال الذي يجب أن نجيب عنه الآن هو:
كيف تقوم المعاهد والمدارس الشرعية بتهميش خريجيها عن تيار الحياة العام ؟
الجواب على هذا السؤال مرتبط في الحقيقة بطبيعة النظم التي تحكم تلك المدارس، كما أنه مرتبط بأوضاعها الواقعية، ومن ثم فلا بد من الإشارة إلى كل ذلك إذا أردنا فهم جوهر المشكلة .
1ـ إن ما سأذكره عن أوضاع تلك المدارس لا ينطبق على جميع المدارس الشرعية المنتشرة في طول العالم الإسلامي وعرضه، فأنا لم أطّلع إلا على عدد قليل منها، كما أن بعض معلوماتي قد يكون متقادماً، ولهذا فلا بد من أخذ هذا بعين الاعتبار.
2ـ الزكوات والصدقات والأوقاف، وما تجود به نفوس أهل الخير هي الموارد الوحيدة لتمويل نفقات المدارس الشرعية الأهلية، فالحكومات ـ في الغالب ـ لا ترتاح لهذا النوع من التعليم، إما لعدم رضاها عن مناهجها وأسلوبها في التعليم، وإما لأن لديها شعوراً عميقاً بأن هذه المدارس تخرج المنافسين والمُشوِّشين، ولهذا فإن من النادر أن نجد مدارس شرعية أهلية، تتلقى أي دعم مادي أو معنوي من أي حكومة، وهذا يعني بالطبع وجود ما يشبه العجز الدائم في ميزانيات تلك المدارس، وهذا دفع بها إلى الاقتصاد في النفقات إلى حد بعيد، وهو ينعكس بالطبع على البُنْيَة التحتية في تلك المدارس على مستوى المباني والتجهيزات وعلى مستوى المُرتَّبات والمعونات التي تُدفع للأساتذة والطلاب. إنَّ من النادر أن نجد مدرسة شرعية تدفع لأساتذتها مرتبات تماثل أو تضاهي المرتبات التي يتقاضاها أقرانهم في التعليم العام، كما أن معظم طلاب المدارس الشرعية جاؤوا من الريف الفقير، وكثير منهم يعتمدون في معيشتهم أثناء الدراسة على المعونات التي تقدمها لهم المدارس، وهي معونات لا تكون في معظم الأحيان إلا لسد جزء صغير من حاجات الطلاب الأساسية مما يجعلهم يعيشون في نوع من الكرب والانحسار والشعور بالقلة وضعف الإمكانات. ومن النادر أيضاً أن نجد مدارس شرعية تمتلك مكتبات ثرية بالكتب الجيدة والجديدة، أو نجد قاعات فسيحة للمطالعة كما أن من النادر أن تجد فيها معامل ومختبرات تعليمية، أو تجد فيها حركة ظاهرة للبحث العلمي، وأنا لا أريد أن أعطي انطباعًا بأن نقص التمويل هو السبب الوحيد في ضعف أداء المدارس الشرعية الأهلية، فالحقيقة الساطعة تقول: إن لدى المؤسسات التعليمية الشرعية وغيرها مشكلات لا يمكن حلها إلا بالمال، كما أنها لديها مشكلات لا يحتاج حلها إلى أي مال.
إن المدارس التي لا تملك المال الكافي لا تستطيع ـ في الغالب ـ اجتذاب أساتذة ممتازين للتدريس فيها، تماماً مثل كل المؤسسات وكل الجهات التي تستقطب موظفين للعمل لديها، وهذا ملموس وواضح في كثير من المدارس الشرعية وحين لا يدفع المعهد للمدرس ما يسد حاجاته، ويجعله يشعر بالرضا مقارنة بما يتقاضاه نظراؤه في مدارس التعليم العام فإنه لا يستطيع أن يطالبه بتطوير نفسه، كما لا يستطيع محاسبته على التقصير، وهذا يشكل في الحقيقة مصدراً لمعاناة كثير من المدارس والمعاهد الشرعية.
و إليك بعض المشكلات الأخرى التي تُسهم في ضعف المُخرجات التعليمية في المدارس والمعاهد الشرعية الأهلية عبر المفردات التالية :
1ـ تستقبل المدارس الشرعية ـ في معظم الأحيان ـ الطلاب بعد إكمالهم دراسة المرحلة الابتدائية، وتقدِّم لهم تعليماً يوازي ما يتلقاه الطالب في المرحلتين المتوسطة والثانوية في التعليم العام، أي قبل أن يدرس العديد من المواد المهمة مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات واللغات الأجنبية ، وهذه المواد تشكل عماد العلوم المعاصرة، ومن المؤسف أن جلّ المدارس والمعاهد الشرعية لا تقدم في هذه المواد لطلابها أي شيء ذي قيمة، وهذا يعني وجود ثغرات كبيرة جداً وخطيرة في ثقافتهم، ووجود نوع من العزلة عن ثقافة العصر، كما يعني وجود فجوة ثقافية كبيرة بين دارسي العلوم الشرعية وباقي الدارسين في مدارس التعليم العام، وهذه الفجوة تجعل كثيراً من طلاب العلوم الشرعية يشعرون بنوع من الاغتراب عن عصرهم ومواطنيهم، كما أن عدم تحصيلهم للأساسيات في العلوم التي ذكرناها يحول بينهم وبين دراستها في أي كلية جامعية بعد ذلك، ويحول بينهم وبين الحصول على أي وظيفة في مؤسسة أو شركة حديثة ومتطورة، لأن المؤسسات المتقدمة تسعى إلى توظيف شباب لديهم ثقافة معاصرة ومتصلة بالتقنية والعلوم الحديثة، وهذا واضح و ملموس عند أدنى تأمل في نوعية الوظائف و الأعمال التي يعمل فيها خريجو تلك المدارس.
2- لعل من أكبر المشكلات التي تعاني منها المعاهد الشرعية الأهلية مسألة الاعتراف بالإجازات والشهادات التي تمنحها لخريجيها، حيث إن السواد الأعظم من الحكومات لا يعترف بتلك الشهادات و لا يعادلها بالثانوية العامة، ومن أجل حل تلك المشكلة سَعَت إدارات تلك المعاهد إلى الارتباط ببعض الجامعات الإسلامية الكبرى مثل جامعة الأزهر، و ذلك حتى يتمكن خريجو تلك المعاهد من إكمال دراستهم فيها والتخرج منها، لكن الذين ينتظمون في الدراسة الجامعية من أولئك الخريجين قليلون، فبعضهم لا يكمل دراسته الجامعية، ومعظم من يكملها منهم يدرسون عن طريق الانتساب و تكون استفادتهم العملية محدودة في الغالب لكن الحصول على شهادة مثل شهادة جامعة الأزهر لا يكفي في أحيان عديدة للحصول على وظيفة أو الانخراط في هيئة تدريس، حيث إن العديد من الدول يشترط الحصول على الثانوية العامة، و معظم الطلاب لم يحصلوا عليها بسبب عدم دراستهم في التعليم العام. النتيجة لكل ذلك هي حرمان الطلاب المعنيين من تبوّء أي مناصب كبيرة أو الحصول على أي وظائف راقية، وهذا شكل من أشكال التهميش الخطير.
3ـ كثير من طلاب العلم الشرعي يتجهون إلى الإمامة و الخطابة و التدريس في المساجد، وهذه الوظائف مهمة للغاية و تتيح لمن يشغلها فرصة كبرى للتأثير في الناس و توجيهم، لكن المشكل هو ضآلة المرتّبات التي يحصل عليها الموظفون في تلك الوظائف و بعضهم يحصل عليها بطريقة مهينة، فقد حدّثني أحد الدعاة أنه كان في زيارة لإحدى الدول الإفريقية وقد ذهب إلى صلاة الجمعة في أحد المساجد واستمع إلى الخطيب، وأُعجب الأخ بفصاحته و علمه، و بعد انقضاء الصلاة و سعيه للخروج من المسجد فوجئ بشيء مؤسف جداً، و هو أن الخطيب الذي بهرهم ببيانه، جلس عند باب المسجد ووضع أمامه منديلاً والناس يضعون ما تيسر لهم من المال على ذلك المنديل مساعدة للشيخ! يقول صاحبنا: و حين سألت عن سبب ذلك، كان الجواب: هذه هي الطريقة الوحيدة لحصول ذلك الخطيب على ما يقيم أوده!.
و في خاتمة الحديث نرى أن التعليم الشرعي الأهلي مطلوب في ظروفنا الحالية، لكنه يحتاج إلى الكثير من التطوير حتى لا يخرّج رجالاً يعيشون على هامش المجتمع.
وبعض المعاهد الشرعية خاض تجربة جديدة، وهي تعليم طلابه مهنة من المهن، حتى يعمل فيها بعد تخرجه، ويستغني عن مساعدة الناس والحكومة، لكن تلك التجربة لم تنجح، وذلك لأن العمل في أي مهنة يصرف الإنسان عن الاهتمام بالعلم والتعليم، ويحوّله من إنسان يمكن أن يكون له دور ثقافي ودعوي مهم إلى شخص يقدّم خدمة بسيطة عبر الحرفة التي تعلمها!.
إن الانفتاح على الواقع هو مصدر كل تجديد، وإن على المسؤولين عن تلك المعاهد أن ينظروا حولهم إلى الفُرص و التحديات الجديدة , و حينئذ سيدركون أن عليهم أن يُحدثوا ثورة داخل معاهدهم على مستوى الإدارة و أسلوب التعليم و المواد و المناهج المقررة، و أن يدقِّقوا في قبول الطلاب و يتخلصوا من الكمّ ليُركِّزوا على الكيف، و ينبغي أن يتم كل هذا على نحو موازٍ للحصول على اعتراف رسمي بالإجازات التي يمنحونها لطلابهم، وذلك حتى يتمكنوا من الحصول على الفرص الوظيفية المرموقة. و لعلّي أتحدث عن الارتقاء بالتعليم الشرعي في وقت من الأوقات .
و الله من وراء القصد.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن