تجربة السلطة.. الامتحان القادم للإسلاميين
كلما ازدادت جرعات الإجرام لاحت تباشير الانفراج، فالأنظمة التي تذبح شعوبها قد أفلست مذ أراقت أول قطرة دم على درب الحرية، والذي يراهن على أنّ الشعوب التي دفعت الفاتورة من حياة أبنائها ودمائهم وأمنهم وقُوتهم وأعراض نسائهم... ممكن أن تتراجع: واهمٌ واهم، فالعودة إلى ما قبل الثورة يعني الموت بكل أشكاله وألوانه، يعني الدمار المعنوي قبل المادي، يعني مزيداً من سحق الكرامات وخنق الحريات... وقد لفت القائد العسكري الثوري الفرنسي (سان جوست) الذي شارك في الثورة الفرنسية لهذا المعنى حين قال: "إن الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم". ويا ليت الأمر يقف عند قبور الأموات... فقبور الأحياء بانتظار الثائرين؛ حيث فنون التعذيب وَصْفة ناجعة تلقّن الدروس لكل من قال "لا"...
إنما يحتاج الأمر مزيداً من الصبر والثبات حتى يشهد الثوار ونشهد معهم لحظات النزع الأخير بعد العتوّ والاستكبار والكفر البواح وادِّعاء إحكام السيطرة على الأوضاع... وهنا يستوقفني قولٌ للفيلسوفة الألمانية (هانا أرندت): "إن خاصية الدكتاتورية أنّ كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حدّ الربع الأخير من الساعة الأخيرة"... ثم يأتي بعدها التوسّل...
وكما أن للثورة رجالَها وقادتَها وخطّتها وبرنامجها... فكذلك لما بعدها؛ فـ "ثقافة الثورة" لا بد أن تتبعها "ثقافة البناء"... ذلك أن (الثورة) دمّرت بنى تحتية للظلم والفساد لتبني غيرها لدولة العدل والحرية والمساواة بين المواطنين وفق قواعد الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات... وما بعدها: ثورة هادئة متبصِّرة؛ تتطلب من قادتها الكثير من الحكمة والتخطيط والتنظيم والرؤى المحددة الواضحة التي تستشرف المستقبل القريب جداً ثم البعيد. يقول الشيخ العلاّمة الشعراوي رحمه الله تعالى: "إنّ الثائر الحق من يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد".
وللثورة منتفعون وبها متربّصون في الداخل والخارج، وهنا الامتحان الأصعب أمام حكام البلاد الجُدُد الذين اختارتهم الشعوب... الإسلاميين؛ حيث الكل ينتظر ويراهن ويخطط كيف يستميلهم، ويستدرجهم، ويدجّنهم...
والنقطة الأهم التي ينبغي أن يقف عندها الإسلاميون هي: أن الله اختارهم لرسالة، وسيكون لهم منه تأييد ما قاموا بشروطها، أما إنْ بدّلوا فسيستبدل الله بهم، لأن سُنّته تعالى في خلقه مطردة لا تحابي: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]؛ إذ لا يكون بناء متين إلا على أساس صحيح: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109].
والامتحان الأصعب هنا: بين السعي لإرضاء الله أو لإرضاء الداخل والخارج... فقد برزت مواقف من المبكر أن نصدر حكماً نهائياً عليها، وإنما تجعلنا نتوقف ونتوجس خيفة:
فقد أدلى الأستاذ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس (في 30/11/2012) بكلمة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أحد أبرز خزانات التفكير للمحافظين الجُدُد وجماعات الضغط الصهيوني اليهودي في أميركا، وكان من أبرز ما قاله: "إن الدستور التونسي الجديد لن يتضمن أي مادة تمنع إقامة علاقات مع إسرائيل"!!! وكذلك قوله: "إن حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، يعود إلى الطرفين. أنا مهتم بتونس"!!! (ميدل إيست أون لاين، مقالة بعنوان: الإسلاميون الجدد: هل هم علمانيون جدد؟، للكاتب: شريف زايد).
ولغيره من الإسلاميين مواقف عليها الكثير من علامات الاستفهام، من المبكر إيرادها والتعليق عليها الآن...
والسؤال المشروع هنا: هل الشعوب الإسلامية انحازت للتيار الإسلامي لكي يعيد إنتاج سياسات الأنظمة البائدة، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113]؟!
الإسلاميون هم قادة الميدان، وهم المنتصرون في هذه الثورات، والمنتصر يطبّق مبادئه وأفكاره وقوانينه (بحكمة وتدرج) ويأتيه أصحاب المصالح من الشرق والغرب يخطبون ودّه؛ فلماذا يُصرّ بعضهم على لعب دور الضعيف المستجدي نظرةَ رضا من أسياد الأنظمة المنهارة؟ ولماذا نعطي الدَّنيّة في ديننا والله قد أعزّنا: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]؟ ثم انظروا إلى قول (النازي هتلر): "إنّ أمة متديِّنة عن إدراك وإيمان هي أمنع من أن تسلّم قيادها للمغامرين الدَّوليين"!
لقد فرض العلمانيون سياساتهم المدمِّرة بكل قوة ودون خجل لأنهم كانوا سادة الموقف، فلماذا يخشى الإسلاميون مِن فرض رؤيتهم المؤيَّدة بالوحي، وهم على يقين أنّ: "انتصارات القلوب هي مفتاح انتصارات الميادين" كما قال الداعية محمد الراشد؟ ثم أَبَعد قول الله قول؟ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45].
ثم ألم تنظروا إلى الشعوب كيف كان الإسلام شعارها والمساجد مهبط أفئدتها وتَجَمُّعها ومُنطلَق ثوراتها؟ وكيف كان هدفها الأسمى: "على الجنة رايحين شهداء بالملايين"؟ وهم الذين اختاروكم لأنكم رفعتم طيلة السنوات السابقة لواء الإسلام وسُجنتم وعُذبتم ونُكِّل بكم ونُفيتم لأجله... والآن مُكّن لكم، فماذا أنتم فاعلون؟
خطة النهوض الحضاري للأمة - أيها الإسلاميون - منوطة بتجسيدكم النموذج الإسلامي الذي فتح البلاد وحكم العباد بكلمة الله، وأنظار المسلمين في العالم متجهة إليكم وآمالهم بعد الله معلّقة بكم لكي تعيدوا لهذه الأمة مجدها وريادتها... ودون ذلك طريق طويل شائك، يبدأ بنفض الشعور بالهزيمة النفسية، ويمرّ عبر تغيير ثقافة الشعوب ومفاهيمها وإعادة بنائها وهيكلتها من جديد وَفْق التصور الإسلامي، وتجديد آليات الحكم وفق المنهج الإسلامي مع التدرج في التنفيذ بعد التمهيد، وإعادة العلماء لمكانتهم المنوطة بهم باعتبارهم مَن يقود الناس بشرع الله لا بشرع السلطان، والاهتمام بنهضة علمية تجعل الأمة قِبلة الشرق والغرب... ولا يستقر إلا بحكم البلاد بما أنزل الله، بعد أن تستعيد الأمة أُستاذية العالم من جديد، تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة".
فهل ينجح الإسلاميون في ابتلاء المنحة كما نجحوا في ابتلاء المحنة؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن