ملامح التغيير الجديد
إن المتتبع لما يجري من متغيرات هائلة في العالم العربي اليوم سواء في الدول التي حدث فيها التغيير أو الدول التي يُظن أن التغيير سيلحقها على وجه من الوجوه وصورة من الصور لسوف يتعجب طويلاً ويندهش كثيراً بسبب عدة أمور:
أولاً: سرعة التغيير:
إن التغيير جرى سريعاً ولم يكن متوقعاً من قِبَل كلّ مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية، ومن قبل كل المراقبين والساسة وعلماء الفكر والاجتماع، وأذكر أني سُئلت في محاضرة قبل بدء التغيير ببضعة أسابيع: هل أنت متفائل بأن التغيير قادم ومتى؟ فقلت: نعم إن التغيير قادم إن شاء الله في بضع سنين، فإذا به يقع عقب بضعة أسابيع فقط من كلامي ذلك، فسبحان الله العظيم، وأستطيع القول إن التغيير الذي حدث فاجأ كلّ المراقبين، ولم يتوقعه أحد حتى من المتظاهرين أنفسهم، وسبحان الله العظيم الذي إن أراد شيئاً هيّأ أسبابه على وجه عجيب.
ثانياً: سلمية التغيير:
إن التغيير الذي حدث في مصر وتونس كان تغييراً سلمياً لم يحصل فيه قتل ولا تدمير ولا عنف من المتظاهرين؛ في حادثة لم تتكرر كثيراً في تاريخ البشرية، فإن العادة جرت أن الأنظمة الطاغوتية العسكرية لا تزول إلا بدماء كثيرة، ودمار هائل، فها هي دول العالم في الحرب العالمية الأولى والثانية قد فقدت أكثر من ستين مليوناً من البشر مقابل نيلها حرّيتها وإزالة الأنظمة الاستبدادية مثل الحكم الهتلري في ألمانيا والموسوليني في إيطاليا.
ثالثاً: وعي المطالبين بالتغيير:
ففي مصر وتونس لا زالت الثورة قائمة إلى الآن تجبر أركان الحكم على التغيير فهذه تونس قد عزلت أركان الحكم السابق تقريباً، وأُلغي دستور سنة 1379/1959، وأقرت الانتخابات التشريعية في شهر شعبان/يوليو القادم، وحدث في البلد إصلاحات مهمة لا تُنكر لكنها ليست كافية ولا محقّقة بعد لمطالب الجماهير، ولذلك بقيت الجماهير تتظاهر إلى الآن كلما أرادت مطلباً والحكومة لا تملك إلا الاستجابة له غالباً.
أما في مصر فإن الذي حدث يفوق الخيال، فبعد شهر ونصف تقريباً من بداية الثورة يُعزل مبارك وأركان نظامه وحزبه، ويؤتى برئيس وزراء اختاره الشعب في سابقة لم تحدث منذ ستين سنة، وعُدّل الدستور تعديلات مهمة، وأُخرج كثير من المظلومين من السجون وهوجمت مقرّات أمن الدولة الظالم لنفسه وللشعب، ووُضِع كثير من رؤوس الفساد والظلم في السجون في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل في تاريخ مصر الحديث، والمهم الأعظم في كل هذا أن الشعب ما زال قائماً بثورته مطالباً بالتغيير، واعياً بما يجري، وهذا من أهم المهمات؛ إذ كم من ثورات إسلامية شعبية سُرقت وقطف ثمرتها أُناسٌ لاخلاق لهم، وأولها ثورة مصر سنة 1372/1952 فقد كانت ثورة حماها الإسلاميون وساهموا فيها ثم قُلب لهم ظهرُ المِجَنّ.
رابعاً: خلوص التغيير من المؤثرات الأجنبية:
إذ كم مِن تغييرٍ حصل في العالم الإسلامي اكتشف المسلمون بعد زمن طويل أو قصير مِن حدوثه أن مِن ورائه أصابع أجنبية، وأنه من تدبير غربي أو شرقي، وأنَّ رؤساءه صُنعوا على عين الكافرين، وأنهم لا يَعْدُون أن يكونوا عملاء حقيرين لأجهزة الاستخبارات العالمية، أمّا الثورات الحادثة اليوم في مصر وتونس وليبيا واليمن فمِن المُستبعد جداً القول بأن للكفار أصابعاً فيها بل هي ثورات شعبية فوجئ بها الغرب والشرق، كما فوجئ بها الساسة وعلماء الفكر والاجتماع من المسلمين وغيرهم، ولعل هذا يحدث لأول مرة في ديار الإسلام، والله أعلم.
خامساً: آلية التغيير:
إن طرائق التغيير التي أحدثت هذا الطوفان تُعدّ جديدة بكل المقاييس حتى صارت معياراً يَرجِع إليه مريدو التغيير، بل إن ولاية ويسكونسن في أمريكا اتّبع أهلُها طرائق التغيير في مصر وتونس- كما جاء في جريدة الحياة اللندنية العدد رقم 17501 ليوم السبت 30/3/1432/ 5 آذار مارس سنة 2011 الصفحة الأخيرة وهذا شيء عجيب في مقاييس العصر، لأنه من المعلوم أن الشعوب الغربية سبقتنا في نَيْلِ حقوقها وابتكار طرائق متنوعة لانتزاعها، أما أن تقوم فئة من الشعب الأمريكي تطالب بحقوق لها مستفيدة من تجربة عربية إسلامية فهذا شيء جديد تماماً فاجأ كلّ الناس.
وقد قام المتظاهرون باستعمال التقنية استعمالاً جديداً متقناً فاجأ الكثيرين في إتقانه وأثَره وشمول استعماله من فئات كثيرة استعصت على المراقبة ومحاولات قطع البث والاتصال.
وأرى - والله أعلم – أهمية دراسة هذه التجربة الجديدة، والاستفادة منها فيما يُستقبل من أيام.
سادساً: تعاضد جهات عديدة في إحداث التغيير:
جرت العادة أن يحدث التغيير داخلياً، لكن هذه المرة عضد التغييرَ الداخليّ عاملٌ لم يكن في الحسبان وهو الإعلام القوي الذي عَرّى الأنظمة، ونقل سوء تعاملها لشعوبها، وأحرجها أمام الناس جميعاً على وجه لم يحدث من قبل أبداً، وكان على رأس هذه الوسائل الإعلامية قناة الجزيرة القطرية التي قامت بثلاثة أمور مهمة :
1- حماية الثورة من البطش الشديد بها، وذلك بنقلها لوقائعها كاملة تقريباً، فلا يستطيع النظام إذًا البطش بشعبه أمام عدسات التلفزة على الهواء مباشرة !
2- شمول النقل لأحداث الثورة على وجه متميز في وقت كانت وسائل الإعلام المصرية تقلل من الثورة وتسخر بها، وذلك أدى إلى معرفة المتظاهرين لما يحدث في كل مناطق الثورة، وهذا عامل جديد تماماً ساهم في تقوية الثورة.
3- ظهور أشخاص كثيرين على شاشة القناة لم يكن ممكناً ظهورهم ولا الاستماع إلى كلامهم المؤجِّج للثورة لولا أن الله تعالى قيّض للمتظاهرين هذه القناة.
وهناك جهة أخرى مهمة عضدت الثورة المصرية والتونسية والليبية ألا وهي مشاعر الجماهير وأمانيها، فلأول مرة تتكاتف الشعوب العربية على هذا الوجه وهذا أدى إلى إذكاء حماس الثوار وتقوية صفهم.
سابعاً: الجرأة في التغيير:
أعظم فائدة في ظني - والله اعلم - في الأحداث التي جرت في مصر وتونس وليبيا واليمن أنها جرّأت الشعوب على المطالبة بحقوقها ورفع المظالم عنها، فلقد عهدنا الشعوب وهي ضعيفة متخاذلة، شديدة الجبن والخور، خائفة على مصالحها، وهذه كانت هي السمة الغالبة في تلك الشعوب إلا فئة منها كانت غير ذلك، فجاءت هذه الأحداث لتتخطى الشعوب حاجز الخوف والرهبة، ولتصمد أمام المُرهبات والمُخوّفات، بل تقف بقوة أمام طلقات الرصاص بل المدافع والطائرات - كما حدث في ليبيا - وهذه جرأة رائعة، وعمل جديد لا عهد للجماهير به من قبل، وفي ظني - والله اعلم – أنه لن يستطيع طاغية أن يستعبد هذه الشعوب مرة أخرى ولا يفرض عليها أنواعاً وألواناً أخرى من الظلم والطغيان، فإن تجرّأ وصنع فإن الجماهير ستنزل مرة أخرى إلى الشوارع وتعيد الكرة من جديد وتُظهر من ألوان الجرأة والقوة ما هو كفيل بتخويف أي ظالم طاغية.
هذه بعض ملامح التغيير الجديد الذي أرى من خلاله بوضوح تحقق قول الله تبارك وتعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [سورة القصص: 5-6]. وأرى فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته) [البخاري].
والله اكبر والعزة للمسلمين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن