مفارقات بين هيبة وخيبة الدولة
إن الحفاظ على هيبة الدولة مطلب دائم للحكام والمحكومين، ولكن المطالب والأمنيات وحدها لا تحقق شيئًا، وهناك بون شاسع بين هيبة وخيبة الدولة. فهيبة الدولة تعني أن تكون فيها سلطة خادمة للشعب والشعب يُقدِّرها، وخيبة الدولة تعني أن السلطة هادمة للشعب، والشعب يُكدِّرها.
هيبة الدولة تأتي عندما يكون القادة في المحليات والنقابات ومجالس النواب والشورى والرئاسة قد اختارهم الشعب لكفاءتهم ونبوغهم وقدراتهم ومهاراتهم وخدماتهم وأمانتهم وتفانيهم في فعل الخير ونفع الغير. وخيبة الدولة عندما يتولى قوم لم يخترهم أحد، وإنما يُعيَّنون وفقًا للثقة لا الخبرة، والولاء لا الكفاءة، والتبعية لا المعية، والتقليد لا الإبداع، والطاعة العمياء وليست المبصرة، فيفسدون الأجواء، ويطاردون الشرفاء، ويستوزرون السفهاء، ويستعملون البلطجية والدهماء.
هيبة الدولة تأتي من شيوع الشورى في القرارات، والعفة في الأموال، والأخلاق في الأفعال، وتفعيل المعامل والمؤسسات التعليمية للمشاركة في الحضارة الإنسانية. وخيبة الدولة عندما تتصف بـ"الاستبداد السياسي"، والفساد المالي، والتحلل الأخلاقي، والتخلف الحضاري.
هيبة الدولة تأتي عندما تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، وخيبة الدولة عندما يتحول أفرادها كما قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) [النحل: 76]، ينتظر كل صباح رغيفًا ملوثًا بالصغار والذل والعار عندما يعطيك عدوك رغيف الخبز ويسلب إرادتك؛ "فمن لم يكن طعامه من فأسه فلن يكون قراره من رأسه".
هيبة الدولة تأتي عندما يُنتخب أو يُدعى القوي الأمين والحفيظ العليم ليكون على خزائن الأرض كما كان يوسف -عليه السلام- عندما دعاه الملك، في قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف: 54]. فبادر يوسف -عليه السلام- إلى خدمة وطنه وتحمل مسئولية الإنقاذ والإسعاف والتخطيط في الظرف العصيب، رغم ما تعرض له من سجن وظلم في البلد نفسه، لكنه تقدم مروءة ورجولة حيث كان التقدم مغرمًا، والبلد سيدخل في مجاعة وقحط وجدب، فتقدم ليحمل الأمانة وينفع الناس بعلمه وقدراته فقال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
وخيبة الدولة عندما يُستأمن الخئون، ويُستبعد الأمين، ويكون "حاميها حراميها" كالذئب الجائع يحرس الغنم، منهاجهم: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23]، أو كما قال تعالى: (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف: 79].
هيبة الدولة عندما تعتبر الناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين رعاياها، وهم أحرار يأخذون بمنهج عمر رضي الله عنه: "متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!". وخيبة الدولة عندما يتسلط الأغرار ويشعرون أن الشعب كله من العبيد الملتصقين بالأرض، فلا حرج أن تدهسهم السيارات كالحشرات، وأن تدوسهم الجنود بأرجلهم كأنهم ذباب، ويفتكوا بأجسادهم كالذئاب.
هيبة الدولة أن تهيئ الشعب كله أن يسعى أبناؤها نحو الناس رعاية، وللأرض عمارة، وللقانون طاعة، وللسلطة معاونة فيما لا يخالف شرعًا. وخيبة الدولة أن تكون السلطة والمجتمع يسعون في الأرض تخريبًا وإفسادًا، وللناس قتلاً وإرهابًا، وللقانون تمردًا وعصيانًا، وللسلطة مواجهة ونكرانًا.
هيبة الدولة يبحث كل فرد في السلطة والمجتمع عن أرض صحراء يزرعونها، فيتسابقون فيما يُقدِّمون ويبذلون ويضحون. وخيبة الدولة أن يسعى كل فرد في السلطة والمجتمع إلى أرض خضراء يأكلونها، فيتسابقون فيما يأكلون ويقضمون ويخضمون.
هيبة الدولة أن يكون لديها قوة وسلطة وجيش وشرطة لا توجِّه السهام إلا إلى المجرمين في الداخل والأعداء في الخارج، ويكون الجيش حاميًا لا حاكمًا، والشرطة خادمة لا هادمة، والشعب مساعدًا لا معوقًا. وخيبة الدولة تجعل الجيش حاكمًا وحاميًا، والشرطة تذل الشعب وتطارد الأحرار، وتساهم في شيوع الجرائم والانفلات في المجتمع.
هيبة الدولة عندما يكون الوزير والمدير والغفير على مسافة واحدة من الخوف أن يتجاوز أحد القانون، حيث لا شفاعة للوزير ولا ظلم على الغفير. وخيبة الدولة عندما يجترئ الناس حكامًا ومحكومين كبارًا وصغارًا أحرارًا وأغرارًا على تجاوز القانون، والانفلات من أي التزام.
هيبة الدولة تأتي عندما يحكمنا القادة الذين يحترمون العلماء، ويعلِّمون الجهلاء، ويداوون المرضى، ويطعمون الجوعى، ويترفقون بذوي الاحتياجات الخاصة. وخيبة الدولة عندما يُهان العلماء، ويقود الجهلاء، ويموت المرضى، وتتضاعف آلام ذوى الاحتياجات الخاصة.
إن التحدي الكبير أمام الربيع العربي والدول التي لم تصلها الثورات أن يبادر الجميع إلى تحقيق هيبة الدولة بالشورى والحرية والعدل والعلم والأخلاق والإنتاج والتحضر والحزم والقوة والعزة والكرامة واستقلال الدولة بين دول العالم، ويجب أن نعالج خيبة الدولة في الاستبداد والفساد والتحلل والتخلف والاستهلاك والذلة على الأعداء والعزة على الأصدقاء.
ولنستحضر جميعًا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به".
يا قوم، إن من يدعو رب الأرض والسماء هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قطعًا مستجاب الدعاء.
فيا ولاة الأمر، ارفقوا بشعوبكم وحافظوا على ما تبقى قبل أن تضيع هيبة الدولة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن