كاتبة
الرحمة... خُلُق المؤمنين
هي كمال في الفطرة، وجمال في الخلق، إحساس في الضمير، وصفاء في الشعور، تهبُّ في الأزمات نسيماً عليلاً يرطّب الحياة، ويُنعش الصدور، ويؤنس القلوب.
الرحمة صفة الله عزّ وجل، فهو الرحمن الرحيم، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، وسبقت رحمته غضبه، جعلها عهداً منه فقال: {كتب ربّكم على نفسِه الرحممة}». ورحمتُه تعالى شاملة كاملة تفيض على المخلوقات وتسَعهم جميعاً، وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وقد جعل الله الرحمة مائة جزء، وأنزل لنا في هذه الأرض رحمة واحدة نتراحم بها، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «جعلَ اللَّهُ الرّحْمةَ مِائةَ جُزءٍ فَأَمسكَ عِندهُ تِسعَة وَتسعِينَ وَأَنزلَ في الأَرض جُزءاً وَاحداً فمِنْ ذَلكَ الْجزءِ يَتَراحمُ الخلائِقُ حتى تَرفعُ الدَّابةُ حَافِرها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبهُ» رواه مسلم.
وكلما كان العبد أرقّ فؤاداً، وأعظم نفعاً لعباد الله، وأكمل إحساناً في عبادة الله، كان نصيبه أعظم وأوفر من رحمة الله {إن الله قريب من المحسنين...}، ومتى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ورسول الله صلى الله عليه وسلّم أُرسل رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وسيرته معطّرة بعبق رحمته تنشر شذاها وطيبها بما سكب الله في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من اللين والرفق، وفي يده من السخاوة والندى، ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً، أثنى عليه تعالى بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
ولقد لازمته هذه الأخلاق العالية في أحلك الساعات، وأصعب الأوقات، حيث غلبه الرفق والرحمة مع أعدائه، يتحمل أذاهم، ويرجو صلاحهم، وما كان دعاؤه إلا قوله: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون».
وكان صلى الله عليه وسلّم يرغب بالرحمة دائماً ويعمّقها في نفوس المسلمين والمسلمات، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الرَّاحمُونَ يَرحمُهُم الرّحمنُ ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ» أخرجه الإمام الترمذي وصحّحه. وكان عليه الصلاة والسلام مثالاً فذّاً للرحمة الخالصة الشفافة; فقد قالت عائشة رضي الله عنها: جاء أعرابيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: أتُقبّلون الصبيان؟ فما نقبّلهم، فقال رسول الله [: «أَوَ أَمْلِكُ لكَ أنّ نَزَعَ اللهُ الرحمةَ مِنْ قَلْبِكَ» رواه البخاري. وكذلك قبّل صلى الله عليه وسلّم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحداً منهم! فقال إنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من لا يَرحم لا يُرحم» متفق عليه.
لقد علّم عليه الصلاة والسلام أصحابه هذا الخُلُق العظيم، وجعله من دلائل الكمال، ليتراحموا فيما بينهم، ولتتذوق قلوبهم نداوة الرحمة.
فالمؤمنة أو المؤمن يتميز كل منهما بقلب مرهف، ليِّن رحيم، يلقى الناس جميعاً، فيرِقّ للضعيف، ويتألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمدّ يده للملهوف، موقناً أنّ رحمة الله لا تناله إلا برحمة الناس: «إنما يرحمُ اللَّهُ مِنْ عِباده الرحماءَ».
والرحمة في الإسلام لا تقتصر على البشر بل تتجاوزه إلى نطاق الرحمة بالبهائم، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الجنة فُتحت أبوابها لامرأة بَغِيّ سقت كلباً بخُفّها، فغفر الله لها، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت.
وعلى هذا النهج التربوي النبوي سار الصحابة الكرام فكانوا أبراراً رحماء، لا فجاراً ألِدّاء: {أَشدّاءُ على الكفّارِ رحماءُ بينهم}، وأيّ تراحم بعد تراحمهم؟!
فها هو أبو الدرداء رضي الله عنه - الذي امتلأ قلبه رحمة ورقة - يقف أمام بعيره عند موته فيقول له: يا أيها البعير! لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحمّلك فوق طاقتك.
إنها صِبغة الإسلام وتربية خير الأنام، حيث سجَّلَ التاريخ لنا مشاهد رائعة من هذه الرحمة الندية، قاد المسلمون من خلالها العالم إلى المحبة والوئام، وحققوا السعادة والسلام، وأناروا حياتهم بمآثر الإحسان. وإن الذي يتجرد من الرحمة فهو في عداد الأشقياء يستحق سخط الله، يقول صلى الله عليه وسلّم: «لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقي» رواه الترمذي.
فلننظر إلى أحوالِ كثير من المسلمات - مثلاً - وبعضهنّ متديّنات بل قد يكُنّ داعيات!! فقد تبدَّلَتْ النفوس، وتحجَّرَتْ القلوب، ودَبَّ داء العداوة والبغضاء، فلا تراحم ولا تعاطف بل تناحر وتفاخر، وتقاطع وتدابر، لذا كان هذا من أعظم أسباب تحكُّم المفسدين والطغاة الظالمين فينا، فأكثروا في البلاد الفساد وأزهقوا الأرواح، ونَحَروا الرقاب، وأسالوا الدماء، وشرّدوا العباد، فويلٌ لهؤلاء الأشقياء من جبار السماء، ويل لهم فيها من عذاب ينتظرهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}.
فما أحوجنا إلى الحياة في ظلال الرحمة ونَدَاها، والأُنس في رحابها وشَذَاها، وما أجمل أن نعيش متوادّين متراحمين، متمسكين بديننا وعقيدتنا، متوجهين إلى الله في طاعة ورجاء، وثقة واستسلام: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة