إنهـا السُّنـن! أهم السنن الكونية في العلاقة بين الحكام والمحكومين
الحمد لله، والصلاة، والسلام، على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وبعد:
فقد قال تعالى: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا، ولن تجد لسنّة الله تحويلا)، وذلك أنّ الله تعالى قـد أجرى خلقه على سُنَنٍ لا تتغير، إلاّ بمشيئة الذي أجراها سبحانه، وليس ذلك في الماديـات فحسب! بل في كلّ شيء من قوانين الحياة الدنيا، حتى تلك التي تربط حياة البشر ببعضهم كلّها، ومنها الحياة السياسية، والعلاقة بين السلطة، والرعيّة، والدولة ورعاياها، والحاكم ومحكومِيه!
ولاريب أنّ من أعظم أسباب النجاح، معرفة سنن الله في الحياة، والتفاعل معها انسجاما، أخذاً بها، واستعمالاً لها، وبناء المشاريع على أساسها.
ولهذا قال تعالى عن ذي القرنين (إنـّا مكنـّا له في الأرض، وآتيناه من كلّ شيء سبباً)، وإنمـّا مُكّن في الأرض، لما أعطي أسباب التمكين.
وليت شعري، كم يخطيء المتحمّسون المخلصون من بناة المشاريع الإسلامية، عندما يقول قائلهم : (نحن أقمنا هذا لنصر الدين ولرفع كلمة الله، ولن يسقط)، متناسين أو غافلين، عن أنّ الله تعالى لا ينصر من فرّط بالأسباب، وأضاع الاستفادة من وسائل العصر، ومن أسباب القوة فيه، التي تسبقها قراءةٌ واعية لواقعـه.
ولقد رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أنّ أسباب النصر في مؤتة، غير مواتية، فآثر الانسحاب من المعركة، لمستقبل يكون فيه الإسلام أعظم قوة، وأقدر، فكان ما فعله خالد نصراً، وسماه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينئذ، سيف الله المسلول، ولم يقرأ الحسين رضي الله عنه - وكان من أكرم الناس على الله - المعادلة السياسية قراءةً صحيحة، فلم يتمَّ أمره، وقُتل شهيدا بأبي هو أمي!
فلستم أيها الإسلاميون بخيرٍ من سيف الله المسلول، ولا أكرم على الله من الحسين!، فإن عجزتم عن استكمال أسباب النجاح الكونيّة، وتخلّفتم عن توفير عوامل النصر القدريّة، فلن تنجح مشاريعكم مهما كان إخلاصكم قويما، وحماسكم عظيما!
هذا.. وليس هذا المقال لسرد أحكام الشريعة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل في ذكر سننٍ كونيـّة، قدريـّة، لاتتغيـّر، ولا تتبدّل، كموازين الطبيعة التي أقام الله الخلق عليها.
وسواء سكت الناس عنها، أو نطقوا بها، وسواء كره الحكام أم سخطوا، هي ماضية في الخليقة، مضاء القضاء والقدر، كتعاقب الليل والنهار، وجريان الشمس والقمر، وهذه أهمـها :
1ـ ولاءُ الشعب للسلطة على قدر عدلها فيهم، وأدائها للأمانة، ولهذا ذُكرت آية طاعة ولاة الأمر، بعد أمرهم بالعدل، وأداء الأمانة، في سورة النساء.
2ـ واحترامهم لها، على قدر احترامها هي لقوانينها، (إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
والذي نفسي بيده، لو جمع الحاكم كلّ مفتٍ يتاجر بدينـه، واستأجر كلّ لسان خطيب منافق مفوّه، ليكْسرَ هذه السنة الكونية ما استطاع إلى ذلك سبيـلا، وكيف لعمري ينقض سنة الله تعالى؟!! ولكنهم زعماءُ حمقى، وبطانة من علماء السوء أشد حمقا منهم!
3ـ وما ظهر في السلطة من انحراف سَرى إلى الناس بحسبه، سريان العدوى في الأجسـاد، والوباء في البلاد،
فما تراه في الناس من فساد، وخيانة، إنما هو انعكاس عمّا في السلطة، كما قال الصديق رضي الله عنه لما سُئل: ما بقاؤنا على هذا الأمر، قال: (ما استقامت لكم أئمتكم)، يعني إذا انحرفوا انحرفتم. وقد قال علي رضي الله عنه، لعمر رضي الله عنه: (عففت فعفّت رعيّتك، ولو رتعت لرتعوا)، كما أورده ابن كثير في البداية والنهاية وغيره، وقد قيل (الناس على دين ملوكها)!
4ـ والظُّلم لايمضي إلاّ إلى مصرعِهِ، وعقوبته معجّلةٌ في الدنيا، ولهذا تسقط الدولة الظالمة وإن مسلمة، وتدوم العادلة وإن كافرة.
5ـ وفطرةُ الناس على بغض الطغيان، وكراهية الحاكم المستكبر، وعلى حبِّ العدل، والخضوع للحاكم المتواضع للرعية المتحـِّبب إليهم، ولهذا تسقط الأنظمة التي يُزرع في قلوب الناس بغضها، ولو بعد حين، وإذا أردت أن تتنبأ بقرب السقوط فقس على ما يُلقى على ألسنة الناس من ألفاظ البغض! ومهما استعملت السلطة من وسائل القمع، والترهيب، فلن ينفعها حينئذٍ، وكم في سقوط فرعون مصر حسني من عِبر.
6ـ وكلّما سكت الشعب عن الظالم عوقبوا بطول أمد ظُلْمِه، وارتفاع تكلفة إزالتهِ، وهذا معنى قولهم - وليس بحديث - (كما تكونوا يُولىّ عليكم) أي بسكوتكم عن الظالم تستحقونه جزاء وفاقا!
7ـ والاستبداد مفضٍ إلى سوء العواقب.
8ـ والشورى مفضية إلى حسن العواقب، حتى في غير الخير، فإنها تقلّل الشر! كما أخوة يوسف، تشاوروا فلم يقتلوه وألقوه في الجب!
ولهذا لما أمر الله بالشـورى، وسَّطَها بين أعظم ركنين بعد الشهادتين، إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، (وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)، وجعلها واجبة على أمة الإسلام، إذ العقول الجماعية أقرب إلى الهدى، وأدنى إلى الصـواب.
8ـ وثلاثٌ تدورُ على أهلها، مكر السوء: (ولا يحيق المكر السيّء إلاّ بأهلِهِ)، والغدر: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه)، والبغي: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم)
10 ـ وتسقط الدول إذا انقطع الانسجام بينها، والشعب، ولهذا كلما كانت السلطة نتيجة الفرز الفطري للمجتمعات، أعني في تسيُّـدِ من هو أعلى في سلُّم المؤهّلات، استمرت حالة الإستقرار فيها، وتنحلّ عراهـا إذا آلت السلطة إلى التوريث الذي يعطّل هذه السنّة الفطرية، إلا إذا كان التوريث يورّث معه تلك المؤهّلات، منسجما مع رضا الشعب عن طواعية.
11 ـ وإنما يطول بقاء نظام الحكم ما جمع سلطانُه بين قوّة حليم، ورفِقْ حازم، ومشورة رشيد، وعدل قدوة.
12 ـ ومن صلحت سريرتُه للإصلاح أيّـدَه الله بحبِّ الناس، ووفقه: (إن يريدا إصلاحاً يوفـّق الله بينهما)، وهذا بين الزوجين فكيف بالإصلاح العام؟! ولهذا قال تعالى على لسان نبيّه شعيب الموصوف بخطيب الأنبياء، معقّبا بالتوفيق على إرادة الإصلاح : (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله).
13ـ ومن انطوي قلبُه على أراد الإفساد صار إلى السفول، والخيبة، قال تعالى: (إنّ الله لايصلح عمل المفسدين).
14ـ ومن حسُنت نيّتـُهُ لإصلاح رعيّتهِ، وصدقت أمانتُه فيهم، أظهر الله ذلك على فلتات لسانه، وحُسْن أعماله، ونطقت به ألسنة الناس، وانشرحت له صدورهم، و العكس بالعكس.
وهذا في كلّ قائد، وليس في السلطان فحسـب.
15ـ وتتجاوز الشعوب أخطـاء السلطة إذا عظُمت حسناتها، وأما حَسَنةُ الحسنات فهي حماية الرعية من بغي الناس على بعضهم، ومن غائلة العدوّ الخارجي، وحفظها الضرورات، ولهذا تسامح العلماء في حضارتنا، فيما مضى، في شروط الحاكم مع هذه الحسنة العُظمى، فإن غدت السلطة هي الباغية على الناس، جرت عليها سنّة الله في البغي.
16ـ وكلّما كان في الناس قائمون بالقسط، ودعاة للإصلاح، ومنكرون للبغي، وناكرون للفساد، تأخرت عقوبة الظلم، والعكس بالعكس، (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم، وأهلها مصلحون).
17 ـ وكلّما كانت أمور الدولة منوطةٌ بالأمناء الكبار ذوي العقول النيـّرة، والتجارب، مستعينين بحماس الشباب، صلُحت، فإن آلت إلى الصغار اضطربت، كما ورد في ذم إمارة الصبيان، وهذا أيضا في شأن العلم، ولهذا ورد من أشراط الساعة أن يُطلب العلم عند الأصاغـر!
18ـ والسلطة مثل السُّوق يُجبى إليها ما يَنفـُق فيها، فإذا رأيت الحاكم حوله ذوو الخيانة، وضعف الديانة، فقد وَجدوا عنده مـا تروج به بضاعتُهم، والعكس.
19ـ وكلّما كانت السلطة أجمع لمؤهلات القيادة ارتقت بالشعب، وعلى قدر ما يرونها في أنفسهم، أعلى منهم، يتطلَّبون معالي الأمور، فيعتلون مدارج المجد.
20ـ وعـزُّ الدولة - ولاريب نحن المسلمون نقول بعد الله، غير أنّ هذه سننٌ جارية على كلّ البشر - باستغنائها بسلاحها، وبعقول مفكّريها، وبسواعد أبنائها، وبقوة إقتصادها، فإنّ فقدت بعض هذه، أو اعتمدت على غيرها ذلّت له بقدر ذلك
21ـ ولا شيء يفجـّر الثورات بالشعوب كمظالم تنتشر، وأُذُن سلطة صمّاء عن نهب الثروة، وترك العباد في فقر، وحرمان، وبطالة، فكيف إذا كانت هي الناهبة، العابثة بثروة الوطـن؟!
22ـ وكلّما ارتقت الشعوب بعقولها، وتطوّرت معرفتها بوسائل تحسين سُبُـل الحياة الكريمـة، وبنُظُم إدارة الشئون العامة، طلبت أنظمة حُكْمٍ أقدر على تحقيق أحلامها، ورفضت ثقافة القطيع، وتحرّرت من عبودية الأنظمـة المستبدة، وهذا هو إكسير الثورات، ووقود التغيُّرات السياسية العظمى.
23ـ ولاشيء يدمّر هويّة أمّة، ويفكّك ثقافتها، ويقودها إلى الإنقراض، مثل سلطة لا تجعـل رسالة تلك الأمة هي همها الأكبر، ولا تحمل مشروع نهضتها وعزّتها على عاتقها، وكلّ يوم تتأخر الأمة في إزالة تلك السلطة، إنما تقترب من الهلاك.
هذا ونسأل الله تعالى أن يبصرنا في ديننا، ويلهمنا معرفة الحق واتباعه، ورؤية الباطل واجتنابه، وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصيـر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن