باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
فاتحون لا غزاة
الكثير منا يعرف أن فاتح الأندلس هو القائد الفذ طارق بن زياد رحمه الله (ت ١٠٢ هـ) والذي سمي باسمه المضيق الذي يفصل بين افريقيّة من جهة والأندلس من جهة أخرى، ولكننا قد لا نعرف أن خلف طارقاً والخطوة التاريخية في إطلاق الجهاد في هذه المنطقة من أوروبا هو أحد قادة الفتح الإسلامي في شمال افريقيا والأندلس وهو القائد موسى بن نصير رحمه الله (ت ٩٧هـ) الذي أرسل طارقاً لقيادة الجهاد في الأرض الجديدة ولحمل دعوة الإسلام وتبليغ دين الله في كل أرض يستطيعون الوصول لها. وعندما توغل طارق أكثر في فتوحاته في شبه الجزيرة الأيبيرية كان لزاماً على موسى أن يوافيه بمدد من الجند وأن يتابع بنفسه هذا الفتح ويشرف عليه شخصياً، فهي بلاد لم يعاينها الفاتحون قبلا إلا ببعض السرايا الاستطلاعية المحدودة جدا كسرية طريف بن مالك، كان دخول موسى في شهر الانتصارات في شهر رمضان المبارك من عام ٩٣ هـ .
وقد عرف فاتح الأندلس موسى بن نصير رحمه الله بحبه للجهاد وإرادته القوية لمتابعة الفتح وتبيلغ وحمل هذه الدعوة الربانية لمختلف شعوب أوروبا.
فقد ورد في السير أنه كان ينوي فتح القسطنطينية والوصول إلى دمشق عن طريق الأندلس، والاستمرار في فتح الأرض الكبيرة حتى الشام: عبر دولة الفرنجة (فرنسا)، وشمال إيطالية حيث بلاد اللمبارد، وبقية إيطاليا (ورومة) ثم جنوب بلاد السلاف، وسهول الدانوب (يوغوسلافيا وبلغارية)، فالدولة البيزنطية حيث القسطنطينية ثم آسيا الصغرى حتى يصل دمشق.
هذا الطموح الهائل لم تسنح الفرصة لموسى بإكماله فقد قام الخليفة الوليد بن عبد الملك (ت ٩٦ هـ) باستدعاء موسى وطارق إلى عاصمة الخلافة دمشق لكي يطلع منهما على سير الفتوحات وعلى المرحلة التي وصلا إليها، إضافةً لخوف الخليفة على المسلمين من التوغل في بلادٍ جديدة وأن تتشتت قواتهم في أراضي الفتح المتسعة.
هذه القصة الرائعة تظهر الفاعلية الكبيرة لقادة الفتوحات الإسلامية والطموحات الهائلة التي يتمتعون بها فلم يكن الجهاد قائماً على التوسع أو حب تحقيق أمجاد ذاتية.
بل هي عملية تتمحور حول الإسلام، تحمِله قلباً وقالباً وتسعى لإدخال كل فرد في إطاره ولم يكن السيف سوى آلية لفرض الأمن والأمان يتحرك تحت ظلاله الآمنة دعاة التوحيد والسماحة من العلماء والدعاة والوصول لكل نقطة تستطيع جحافل المسلمين بلوغها.
فلم يرد في تاريخ الفتح الاسلامي للأندلس أو سواها عن مذابح أو مجازر بحق سكان المناطق المحررة بل على العكس قد استقبل السكانُ الفاتحين مهللين فقد عانوا كثيرا من الاضطهاد الديني والسياسي الذي مارسته قوات القوط(1) بحقهم.
لم يمت حلم بن نصير ولم يذهب هباءً بل تابعه المسلمون من بعده عمليا حتى توغلوا في قلب بلاد الغال "فرنسا" ووصلوا إلى مدينة "بواتية(2)" التي حصلت قربها معركة عظيمة وهي بلاط الشهداء بقيادة عبد الرحمن الغافقي رحمه الله (ت ١١٤ هـ) .
هذا الفتح المبارك لم تنحصر أهميته في البقعة الجغرافية الأندلسية بل تعدتها لتصبح حالة عالمية بكل ما تحمل الكلمة من معاني ومنها:
- النهضة العلمية الكبيرة التي احتضنتها الأندلس والبلاد الاسلامية المجاورة والعلماء الكبار أمثال ابن خلدون والزهراوي، هذه العلوم كانت المدماك الأول في النهضة الأوروبية الحديثة التي قامت في القرنين السادس والسابع عشر .
- انتشال اوروبا من حالة الجهل والفوضى والعبثية التي كانوا يعيشون بها، فقد أخذوا عن الأندلسيين مبادئ السلوك الراقي في التعامل واللباس حتى في النظافة الشخصية والعامة.
- تفوق المدنية في الأندلس عن مثيلاتها في أوروبا فيعتبر الأندلسيون أساتذة علم التخطيط المدني فقد كانت المدن أمثال قرطبة وغرناطة وسرقسطة نموذجا رائعاً قلده الأوروبيون في بناء المدن بعد ذلك.
هذه القبسات هي غيض من الفيض الإسلامي في الأندلس وهي جزء من صرح الحضارة الإسلامية التي تزاوجت فيها علوم الشرع والحياة بنسق لم يسبق له مثيل في التاريخ العالمي القديم أو المعاصر.
هذه الأندلس مجدنا الضائع الذي يمرّ ذكرى، فقدناها وهي حزينة كئيبة على أترابها من بلدان المسلمين في الشرق التي تغرق في ظلم الطغمة الظالمة من حكام الأذناب والطغاة.
(1): القوط (باللاتينية: Gothi) قبائل جرمانية شرقية قدموا من إسكندنافيا إلى وسط وجنوب شرق القارة الأوروبية، استفادوا من ضعف الدولة الرومانية واحتلوا شبه الجزيرة الإيبيرية - اسبانيا والبرتغال - وقد عانت الأندلس في عهدهم فسادا إدارياً وسياسياً إضافةً للضرائب الكبيرة التي فرضت على المزارعين.
(2) بواتييه: مدينة تقع على نهر كلين في وسط غرب فرنسا ، و قدجرت عندها معركة بلاط الشهداء الشهيرة (معركة بواتييه) في عام(114هـ) 732 م بين قوات المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي وقوات الإفرنج بقيادة قارلة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن