باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
في ذكرى التحرير ...تنادينا القدس
يختزن التاريخ لحظات حاسمة ومفصلية، يضج فيها الكون فرحاً وتعلو فيها بيارق النصر عاليةً خفاقة، يتبدد ديجور الإرهاب والتضليل ويشعّ نور الحق بعد تغييب قسري وإلغاء للروح الجهادية في الأمة المؤمنة اعتقد الكثيرون ديمومتها بعد عقود من الإذلال والخنوع...
لحظة الانتصار والظفر على العدو هي من هذه البوارق، تقع كالصاعقة على أعداء الأمة وتبدد أحلامهم بأنهم باقون في ديارنا أبد الدهر، وكم سيكون هذا النصر مهماً وأساسياً عندما يحدث بعد احتلال لواحدة من أهم مدن العالم الإسلامي وتدنيس دام أكثر من ٩٠ عاماً لقِبلتنا الأولى...
وهنا علينا أن نشدد على حقيقية مهمة، ليس صلاح الدين شخصاً أسطورياً أو شخصية نادرة لم تنجب الأمة مثلها بل هو جزء من جيل أكمل بناء الصرح الذي أطلق بناءه من كان قبله من أمثال نور الدين وعماد الدين زنكي وآق سنقر رحمهم الله، جيل أعاد الجهاد للأمة بعد أن أضحت كل مدينةٍ في الشام دويلة وكل حاكم استحال سلطاناً، حتى أصبح التغيير أمراً محتماً وحاجةً أساسية.
لم يكن المسلمون ومنذ أن وطأت أول جحافل الصليبيين بلاد الإسلام كحالتهم بعد الانتصار في معركة حطين، فمظاهر الضعف والتشرذم قد محيت تماما من الذاكرة، وتحول المسلمون من طاقات مبعثرة في بلاد الشام تتصارع على نفوذ ضيّق في مساحات محدودة من الأرض عبر صراعات قميئة على النفوذ، تحولوا إلى قوةٍ واحدة تسلمها صلاح الدين يوسف واستطاع توجيهها لهدف جليل وهو محاربة الكيان السرطاني في جسد الأمة كما استأصل من قبل شأفة الكيان الرافضي في مصر وأعادها لحاضنة العالم الإسلامي لتعود الكنانة لدورها الأساس في مواجهة الأطماع الصليبية ومواجهة المشروع المتمثل بإحلال الصراع وتحويل بلاد الشام لبؤرة من الاستنزاف الدائم والصراعات المختلفة ...
بعد حطين تطلعت العيون للقدس، فقد كُسر الصليبيون في المعركة وحلت بهم هزيمة منكرة لم يذوقوا طعم مثيل لها منذ أمد بعيد فقد كانت ضربة قاسمة لقوتهم وباباً مشرعاً للوصول لمدينة القدس وقد ذكر بعض المؤرخين بأنه "من شهد حطين ونظر للقتلى لا يظن بأن هناك أسرى، ومن ينظر للأسرى لا يظن بأن هناك قتلى"، ففتح طريق القدس وأصبحت أبواب باقي فلسطين والشام مشرعةً أمام الزحف المسلم وهنا استعاد صلاح الدين عسقلان والمدن والقلاع المجاورة لها، وقام بعدة هجمات على مدن الساحل بهدف عزلها أكثر والإمعان في تشتيت القوات الصليبية لكي لا يتجمعوا مرة أخرى...
نتيجة لذلك احتشد في القدس خلق كثير من الفرسان والمقاتلين عدى من يسكن فيها من النساء والأطفال، وقد حاول السلطان الأيوبي عدم محاصرة المدينة تعظيماً لها مرسلاً لهم بتسليم المدينة مع تأمين السكان والسماح لمن يريد أن يخرج منها آمناً ولكن العناد والرفض الصليبي دفعه للزحف عليها وضرب الحصار في 15 رجب 583 هـ، لقد واجه مقاومةً شديدة من المدافعين عنها ولكن الإصرار المسلم والروح الإيمانية العالية التي تمتع بها الجيش وإرادة تحرير القدس بعد ليلها البهيم أعطت له الأفضلية في المواجهة، فاشتد القتال وتتالت المحاولات المسلمة لاقتحام المدينة، في هذه اللحظة الحرجة طلب الصليبيون الصلح على شروط صلاح الدين السابقة ولكنه رفض طلبهم فقد أوشك على الدخول عنوة إليها، وبعد استشارة قادته والعلماء في جيشه تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل دفع مبلغ يفدون فيه أنفسهم وهي عشرة دنانير عن الرجل، وخمسة دنانير عن المرأة، ودينارين عن الطفل، ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر على أن يُدْفع الفداء خلال أربعين يومًا كحد أقصى...
وفي 27 من شهر رجب في اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى إماماً للأنبياء عليهم السلام دخل المسلمون مدينة القدس الشريف وقد أظهروا نموذجاً رفيعاً من سماحة الإسلام في التعامل مع الأعداء فلم تشهد القدس مذابح فظيعة وقتلاً مروعاً وهدماً لكنائس الصليبيين وبيعهم ولم يخالف المنتصرون عهدهم واتفاقهم بل على العكس عاملهم بما ينضح به ديننا من خير وعدالة وأعفى الآلاف من الفقراء من الفدية المقررة في الصلح وقد أورد أهل التاريخ بأن بطارقة الصليبيين كانوا يخرجون وهم يحملون صناديق الذهب وفقراء كنائسهم لا يجدون من يفادهم فيدفع السلطان الأيوبي من ماله الخاص هذه المبالغ.. لقد أعطى صلاح الدين وجيشه نموذجاً عالياً من الانضباط والجدية فقد تربى هذا الجيل الرباني وأُعد لهذ اللحظة المفصلية فلم يكن ما قام به ضرباً من الخيال بل هم قوم تربوا على الإسلام وطبقوه كما فعل الصحابة الكرام في فتوحاتهم العظيمة، نموذج يحيى للإسلام وإليه.
بقي صلاح الدين في الوجدان الغربي طيلة 9 قرون بطلاً خيالياً وحلماً تقصه العجائز على أطفال لندن وباريس وفيينا في ليالي الشتاء عن ذلك البطل من الشرق الذي تحول لأسطورة لا يعرف الغرب بحضارته المادية الواهية وفراغه الروحي والعقدي شبيهاً أو منافساً عدى تلك الحكايا التي تترنح بين الحقيقة والخيال...
دخل صلاح الدين إلى المسجد الأقصى يوم الجمعة (4 من شعبان) وصَلَّى فيه المسلمون أول جمعة لهم في المدينة، وعمل المسلمون على محو الآثار النصرانية؛ فأعادوا قبة الصخرة والمسجد الأقصى إلى سابق عهده وأنزل الصليب الكبير الذي أقامه الصليبيون في أعلاه، كما أزيلت الجدران التي أقاموها والصور المعلقة بها - فقد اتخذوا مسجد الصخرة كنيسة لهم - كما أزالوا أرضية من الرخام وضعت لإخفاء الصخرة التي عرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزيل عنها ذلك الدنس ثم غُسِلَتِ الصخرة بماء الورد وبُخِّرَت، وأمر صلاح الدين بترميم شامل للمسجد الأقصى وهدم كل ما استحدثه الصليبيون من بيوت، وقد أولى الصناع والحرفيون عنايتهم الفائقة في تزيينه وتجميله، كما نقل للمسجد منبر نور الدين رحمه الله الذي صنعه ليوم التحرير في خطوة تظهر الإرادة العظيمة واليقين العظيم بأن الله تعالى متمٌ أمره ولو في غير زمانه وحياته ...
تسعون عاماً والانتظار يفت بالمسلمين ويذيقهم لوعة الحرمان، تسعون عاماً مرت والمسلون في شغل عن مسرى نبيهم، حتى خرج للنور جيل عاد للمعين وعب منه في شوق ولهفة ليبني صرح مجده من جديد، جيل صلاح الدين هو تضافر جهود العلماء والمصلحين والمربين والقادة في أعظم صورة من تجديد الوعي الإسلامي في سيرورة واضحة المعالم وضعت القدس نصب عينيها حتى ظفرت جباههم بسجدة بين عتابتها وضمت قلوبهم وعيونهم أزقتها في محراب الدمع والخشوع...
وكم يدمي القلب أن يتكلم الإنسان عن التحرير وفرحة النصر وهو يرى القدس مسربلةٌ في قيود الصهاينة تئن وهي مكلومة ضعيفة تنهشها مشاريع الإحلال والإبعاد وتخترق قلبها أنفاق غادرة تهدد أقصاها نام المسلمون عنها وتركوا القدس لا صلاح يغيثها ولا عمر يحرك الجيوش لتحريرها إلا من فئة مرابطة صابرة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة